فالدولة التي تستند الى نخب سياسية فاعلة ونشطة في بناء المؤسسات المدنية، تكون مستقرة لا تؤثر فيها الأزمات الطارئة، كما هو الحال في دول الديمقراطيات الراسخة في الغرب. أما الدول ذات النخب السياسية الضعيفة والبناء المدني الهش، فهي عرضة لمشاكل خطيرة، لأن التشكيلات العسكرية ستشغل الساحة في حال بروز أزمة، كما رأينا ذلك في أيامنا هذه في مصر وليبيا واليمن وافغانستان ولبنان.
ومن المفكرين الذين تناولوا هذه القضية بالشرح والتحليل، الجنرال البريطاني (ليدل هارت) وهو واحد من أقوى العقول الإستراتيجية في العالم والذي حظيت افكاره بإهتمام قادة الدول الغربية، واعتمدوها في الكثير من مواقفهم الداخلية والخارجية، وخصوصاً ما كتبه في مؤلفيه (الطريق الى الانتصار) و (الاستراتيجية وتاريخها في العالم)، اضافة الى اعتماد آرائه في مشكلات الحرب والسلام في العصر النووي.
حذّر (ليدل هارت) من إنشاء تشكيلات عسكرية خارج مؤسسة الجيش المركزي، وأكد ان هذه التشكيلات ستتحول الى عامل تفتيت للدولة بعد فترة من عملها، وأن هذا الخيار يمكن تفهمه من دولة استعمارية تريد ابقاء الدولة الجديدة ضعيفة او مرشحة للتمزق، وبغير هذه الحالة فانه أوسع خطوة نحو تفتيت الدولة لنفسها.
في ما يجري في العراق، فانه يواجه معضلة كبيرة في طور البناء، فمع سقوط مناطق واسعة تحت سيطرة داعش، وضعف الجيش في القيام بمهامه، إضطرت الحكومة الى إجراءات عاجلة تمثلت في تشكيل قوات الحشد الشعبي التي تكونت أساساً بفتوى المرجعية الدينية، وحققت هذه القوات انجازات قتالية مشهودة حتى الآن، حيث استطاعت ان توقف تمدد تنظيم داعش اولاً، ثم تبدأ عملية تحرير المناطق المحتلة.
إن قوات الحشد الشعبي يمكن السيطرة عليها، عبر القيادات الشيعية المشاركة في الحكومة، وعبر الفتوى الدينية، ومع ذلك يبقى هامش الخطر موجوداً في حال عدم استيعابها ضمن الجيش المركزي. لكن الخطورة الأكبر ستظهر في مساعي زعماء العشائر في الأنبار حيث يدعون الى تأليف قوات خاصة بهم لها تسليحها المباشر من الولايات المتحدة، مما يعني أنها ستكون خارج سيطرة الحكومة.
وفي ضوء هذا الواقع المفروض لمواجهة تنظيم داعش، فان ثمن استعادة المناطق الساقطة، وتطهير العراق من هذه الجماعات الإرهابية سيكون باهضاً مخيفاً، والخلل ليس في الأداء الحكومي، إنما في ضعف النخب السياسية وإنعزالها عن المجتمع، فهي مكونات غارقة في الاهتمام الفئوي، مما جعل حضورها الميداني محدوداً، الأمر الذي يُغلّب التشكيلات القتالية على الكيانات والمؤسسات السياسية والمدنية. أي سيصبح العراق في مواجهة خطر الأزمات الحادة بما في ذلك الإقتتال الأهلي والتقسيم بعد أن تنتهي المعركة مع تنظيم داعش.
هذا الخطر يستدعي تخطيط حكومي عاجل يسير بموازاة الإهتمام العسكري، لتلافي التداعيات التي ستفرزها المواجهة مع الإرهاب.