القوة الناعمة والاستراتيجيات والعالمية

    منذ انتهاء عهد الحرب الباردة 1947 – 1989 والعالم تتنازعه استراتيجيتين أساسيتين، حتى وإنْ بدتا متناقضتين، إلاّ أنّهما في الوقت نفسه متداخلتين أحياناً:

    الاستراتيجية الأولى استندت إلى مبدأ القوة الناعمة Soft Power التي تقوم على الدبلوماسية والحوار في إطار “نظام عالمي جديد” له شروطه التي روّج لها جورج بوش الأب، وكان الإعلان عن سيادة الهيمنة الرأسمالية العالمية والنظام الليبرالي المدخل لذلك، عبر تنظيرات “نهاية التاريخ” التي قادها فرانسيس فوكوياما، الأمريكي من أصل ياباني، ومع أن هذه الاستراتيجية كانت سائدة خلال الحرب الباردة، وما عُرف منذ الخمسينات بتوازن الرعب “النووي”، إلاّ أنّ تجلّياتها كانت قد ظهرت في عقدي السبعينات والثمانينات بخصوص العلاقة مع الدول الاشتراكية السابقة، فيما عُرف بسياسة الوفاق الدولي، والتي قادت بصورة تدريجية إلى انهيار الكتلة الاشتراكية بضعضعة كيانها من الداخل، إلاّ أنّ حرب التحالف ضدّ العراق العام 1991 بعد غزوة الكويت في العام 1990، كانت إيذاناً بمرحلة جديدة لاستخدامات القوّة الخشنة، بعد انفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على نظام العلاقات الدولية والأمم المتحدة.

    أما الاستراتيجية الثانية فقد ظلّت منشغلة بالصراع العسكري (القوّة الخشنة hard Power) تلك التي ينبغي استغلال الوقت لتحقيقها ولضمان هيمنة واشنطن على العالم ليصبح القرن الحادي والعشرين قرناً أمريكياً بامتياز. ولعل أطروحة ” الخطر الإسلامي” كانت جاهزة بعد انتهاء ” الخطر الشيوعي”، وهكذا ضجّت وسائل الإعلام بالإسلامفوبيا، وصدام الحضارات التي نظّر لها صموئيل هنتنغتون.

    وامتدّت هذه السياسة من الرئيس جورج بوش إلى عهد الرئيس بيل كلينتون وما بعده جورج دبليو بوش (الابن)، وشهدت الفترة المذكورة محاولات لسياسة الاحتواء المزدوج (العراق ـ إيران) وفرض الحصار على العراق، ثم استدارت إلى القوة الخشنة، فأقدمت على احتلال أفغانستان والعراق، والحرب على ليبيا وتصعيد استخدام القوّة ضدّ الإرهاب الدولي، وصولاً إلى عهد الرئيس باراك أوباما الذي اتّبع نهجاً تهديئياً بالترافق مع فشل خطط الغزو والاحتلال والخسائر المادية والمعنوية التي تعرّضت لها القوات الأمريكية، إضافة إلى ضغط الرأي العام العالمي، ولا سيّما الأمريكي، ناهيك عن الأزمة المالية والاقتصادية الطاحنة التي عاشتها الولايات المتحدة بالذات منذ العام 2008، لهذه الأسباب جميعها أعلن أوباما الانسحاب من العراق، ووضع خطة للانسحاب من أفغانستان، وواصل المفاوضات مع إيران (إضافة إلى 1 + 5) بخصوص الملف النووي، حيث تمّ التوصّل إلى اتّفاق معها بعد مفاوضات مضنيّة (العام 2015).

    لم يكن اليمين الغربي وحده هو منظّر القوة الناعمة، بل أن مفكراً يسارياً كبيراً مثل نعوم تشومسكي كان قد دعا إلى مواجهة المشاكل الكبرى مثل الإرهاب والفقر والتخلّف والعولمة والتنمية من خلال علاقات دولية أكثر تكافؤاً، وإنْ كان من زاوية مختلفة، حيث دعا إلى أن تتفرغ الأمم المتحدة لحلّ النزاعات الدولية، وهذا يتطلّب من وجهة نظره انضمام (جديد) لواشنطن لنظام محكمة روما (المحكمة الجنائية الدولية) التي أعلن عن تأسيها في العام 1998 ودخل ميثاقها حيّز التنفيذ في العام 2002، (لكي تكون مساءلة أمام القضاء الدولي حتى تنتهك الشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي). وكانت الولايات المتحدة قد انضمت إليها عشية إغلاق باب الانضمام إلى الهيئة التأسيسية (أواخر العام 2000)، لكنها انسحبت منها بعد أن أصبحت نافذة بانضمام 60 دولة (2002)، ومثلها حذت “إسرائيل”.

    لم يكتفِ تشومسكي بذلك، بل اقترح حلولاً دبلوماسية واقتصادية واجتماعية للمشكلات الدولية، لا سيّما بعد الاعتراف بمبدأ حق تقرير المصير الوارد في ميثاق الأمم المتحدة (المادة 55) وبحق الدول في الدفاع عن النفس فرادى أو جماعات (طبقاً للمادة 51)، خصوصاً من أجل التحرر الوطني والانعتاق ونيل الاستقلال، كما اقترح بضعة خطوات لإعادة هيكلة الأمم المتحدة وتعديل ميثاقها، بما فيه إلغاء حق الفيتو للدول الأعضاء الدائمة العضوية (الخمسة الكبار).

    وحسب وجهة نظر تشومسكي، ليس الغرب وحده هو من يستطيع استخدام وسائل القوّة الناعمة، بل إنّ الشعوب والأمم والدول الصغيرة، هي الأخرى بإمكانها “التكتل” و”التجمّع” لتحقيق انعطافة في إطار منظومة العلاقات الدولية، والتأثير على الدول والقوى الغربية التي تريد اختراق الدول الضعيفة لتحقيق مصالحها الأنانية الضيقة، كما يدعو إلى عمل جماعي لإصلاح الأمم المتحدة وإعلاء هيكلتها وتركيبها وميثاقها، بما يضمن مصالح الشعوب.

    مع استخدامات القوّة الناعمة، واصلت واشنطن استخدامها للقوّة الخشنة، فخلال ربع القرن الماضي ونيّف خاضت حرباً ضد العراق (لتحرير الكويت) العام 1991 وحرباً اقتصادية (حصاراً ضد العراق) استمر 13 عاماً، وخلالها خاضت حرباً لتفكيك يوغسلافيا (عبر الأطلسي) ضد صربيا بعد المجازر في البوسنة والهرسك، ثم حرباً ضد أفغانستان 2001، وبعدها في العام 2003 واصلت مشروعها الحربي – العدواني باحتلال العراق، كما شارك الغرب في تدخله العسكري في ليبيا العام 2011 في انفلات الأوضاع والفوضى الأمنية والسياسية.

    أما الحرب ضد الإرهاب التي بدأت بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية العام 2001 فما تزال مستمرة ومتواصلة من باكستان وأفغانستان وإيران وسوريا، وصولاً للمغرب العربي والصومال ومالي في أفريقيا، بل أن مداها العالم كلّه، خصوصاً بعد سيطرة داعش على الموصل في 10 يونيو (حزيران) العام 2014 وتمدّدها إلى نحو ثلث الأراضي العراقية وكسر حدود سايكس – بيكو بربط الرقة ودير الزور (السوريتان) بالموصل ومناطق غرب العراق.

    وكانت واشنطن قد وصفت في “مفكرتها” الدولة المارقة التي يدخل فيها إيران وكوريا أيضاً، وذلك بعد العراق وسوريا وليبيا والسودان، ناهيكم عن منظمات تم وصفها بالإرهاب مثل حزب الله وحماس والجهاد وغيرها، وهو ما كان قد ركّز عليه وزير الدفاع في عهد بوش الابن دونالد رامسفيلد وصقور الإدارة الأمريكية، وجرت عملية تجديد هذا التوجه خلال العامين الآخرين باتخاذ خطوات جديدة، اقتصادية ومالية وسياسية وفكرية، لأبلسة جهات تعتقد واشنطن أنها عدوّاً لها.

    لقد كان قرار الحرب على العراق قد اتّخذ بُعيد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية، لا سيّما وأنّ الكونغرس كان قد أصدر قراراً “لتحرير” العراق في العام 1998، ولدعم المعارضين للنّظام السّابق، بحجّة وجود أسلحة دمار شامل وعلاقته بالإرهاب الدولي، وخصوصاً تنظيمات القاعدة، فضلاً عن إجراء تغيير ديمقراطي ليكون العراق “نموذجاً” يحتذى به في الشرق الأوسط الجديد والكبير لاحقاً.

    وبعد احتلال العراق العام 2003 واتّضاح كذب مزاعم وجود أسلحة دمار شامل، وبعد المأزق الأمريكي في العراق، طويت مسألة الديمقراطية، وأصبح الحفاظ على الأمن والاستقرار الهاجس الأمريكي الأساسي، واضطرت واشنطن إلى سحب قواتها من العراق بفعل الخسائر التي تعرّضت لها، المادية والمعنوية، وخصوصاً البشرية، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية والمالية الطاحنة، وضغط الرأي العام الأمريكي والأوروبي والعالمي المعادي لاحتلال العراق، لا سيّما بعد فضائح سجن أبو غريب والسجون السرّية الطائرة والسجون السرّية العائمة.

    لا يزعم اليوم أحد من الأمريكان، بمن فيهم من خطّط ونظّم للحرب والغزو على العراق، الاّ على نحو محدود جداً، إنها كانت حروباً من أجل الإنسانية أو من أجل الشعب العراقي، خصوصاً وهذا الأخير وبعد معاناة من الاستبداد والدكتاتورية والحصار ظل يعاني من الاحتلال، فضلاً عن الإرهاب والعنف، اللّذان لا يزالا قائمين حتى الآن، ناهيكم عن الفساد المالي والإداري وضعف هيبة الدولة وتشظيها، بفعل المحاصصة الطائفية والإثنية، التي ساهمت في تفتيت الوحدة العراقية، والأنكى من كل ذلك هو ما تعرّضت له البلاد من احتلال داعش لأجزاء من البلاد، وما يدفعه بسبب ذلك من أثمان باهظة لمواجهتها.

    وحتى الآن، وعلى الرغم من الحديث عن محاربة الإرهاب، فإنّ الأزمات ازدادت استفحالاً، وطوي مشروع الدولة الفلسطينية الذي تبنّاه الرئيس كلينتون في آخر فترة رئاسته ، وكان الرئيس جورج بوش قد تذكّره في أشهره الأخيرة وحاول كسب الوقت لإحيائه، لكن الوقت أدركه، أما أوباما فقد نسي وعوده بإغلاق سجن غوانتانامو وخطابه في جامعة القاهرة باحترام مقدسات المسلمين، بل أن الأصوات تعاظمت خلال سنوات إدارته، باستفزاز مشاعرهم والإساءة إلى نبيهم محمد (ص)، وعلى الرغم من أنه أفلح في التوصل إلى اتفاق مع إيران بخصوص الملف النووي الإيراني، لكن القلق لا يزال يساور شعوب المنطقة من احتمال قيام “إسرائيل” بحماقة يمكن أن تفجّر المنطقة وتدخلها في حروب قد لا تحمد عقباها، خصوصاً فيما يتعلّق بـ:إنتاج النفط وأسواقه وأسعاره وطرق مواصلاته، وغير ذلك.

    وعادت اليوم روسيا والصين إلى الميدان، الأولى بفعل الأزمة السورية، أما الثانية فبحكم حضورها الاقتصادي، فهل نحن إزاء حرب باردة جديدة؟ أي استخدام للقوّة النّاعمة بحرب طويلة الأمد. ولعلّ انتخابات الرئاسة الأمريكية والمنافسة الشديدة الديمقراطيين والجمهوريين، ولا سيّما بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، قد تفصح عن توجهات إزاء المرحلة الجديدة من الصراع الدولي، خصوصاً وأن فجوات اقتصادية بدأت تكبر منذ الأزمة الكونية للرأسمالية العالمية، وصعود دور الصين.

    وإذا كانت ملامح القوّة الخشنة مهيمنة على المجمّع الصناعي – الحربي في واشنطن، ويمكن استنفارها كلّما اقتضت الحاجة، فإن بعض ملامح القوة الناعمة، لا تزال في أوروبا واليابان، وتسيطر على أوساط دبلوماسية وعلمية وأكاديمية غير قليلة، فهل ستختار ساحات جديدة كأمريكا اللاتينية أو آسيا أو أفريقيا أو سيتم اختبارها في العودة إلى الشرق الأوسط الذي ظل منذ ما يقارب سبعة عقود من الزمان بؤرة توتر وحروب ونزاعات مستمرة، خصوصاً بفعل تأسيس “إسرائيل” وقيامها بشن عدوان متكرّر على العرب، وبحكم وجود النفط ودور منطقة الشرق الأوسط في الصراع الدولي خلال الحرب الباردة، وهو ما عبّر عنه الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت أيزنهاور في مذكراته بالقول: إنه (أي الشرق الأوسط) أقيم قطعة عقار في العالم؟

    شاركـنـا !
    
    التعليقات مغلقة.
    أخبار الساعة