صفقة الالتهام العراقية الكبرى!

    لم يعد بالامكان حتى، تخيل ما تسعى القوى السياسية العراقية إليه هذه الأيام، ففي أكثر خيالات الشعب العراقي انفلاتاً لم يكن يتوقع أن يتم الاتفاق على توزيع 4000 منصب في الدولة العراقية على طريقة قسمة الغرماء بين الأحزاب الرئيسية.

    الحياء أحياناً يمنعنا عن الكتابة للرأي العام العراقي والعربي والدولي حول حفلة الضباع المنصوبة اليوم في بلادنا، فكيف يمكن إيصال فكرة مستحيلة مفادها أن الأحزاب التي فازت في انتخابات عام 2018 تعتقد أن من حقها اقتسام المؤسسات الإدارية للدولة بطريقة إعداد جدول يضع اسم المرشح لمدير في دائرة المرور مثلاً، أو مدير إدارة في دائرة التقاعد أو الصحة أو البلدية وصولاً الى المدير العام ووكيل الوزارة والسفير وعميد الكلية وعضو هيئة أو رئيسها، ومن ثم وضع اسم الحزب الذي ينتمي اليه مثل “سائرون” و”العصائب” و”الدعوة” و”تحالف القوى” و”الكردستاني”… الخ!

    هل هناك خيال يمكن أن يستوعب هذا النوع من العته السياسي الذي بات من المتبنيات السياسية العراقية في مرحلة هي الأسوأ بعد 2003، وعلى يد خريطة سياسية هي الأكثر خطورة على المستقبل العراقي؟

    قبل أسابيع قدمت القوتان اللتان تقودان الحكومة العراقية عبر ما بات يعرف بتحالف “سائرون – الفتح” أنموذجهما لقسمة الغرماء الجديدة عبر انتخاب شامل وهادئ لأمين عام مجلس الوزراء (سائرون) ومدير مكتب رئيس الوزراء (الفتح) وعدد من السفراء تم اقتسامهم وتمرير أسمائهم من دون ضجيج ولا اعتراضات، فكانت تلك كما يبدو “بروفة” جيدة سمحت بتسريع وضع القوائم الجديدة، الأولى تضم 77 اسماً، والثانية 117، والثالثة 500، وهكذا حتى يتم تغيير الدولة الحالية بأخرى جديدة مختومة بختم التيارين!

    وبالطبع، التطورات التي حدثت، وظهور انتقادات شعبية واسعة النطاق حول الصفقة، أربك بعض الحسابات ولكن لم يعقها، فحتى هذه اللحظة الاجتماعات لاتتوقف وسجال الأسماء لاينتهي، بل إن حفلة الاقتسام مستمرة حتى بعد أن طلب زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر من التيار السياسي الذي صعد نوابه باسمه “سائرون” أن لا ينشغلوا بالمناصب كما يفعلون اليوم.

    ولكن بعض القيادات في تيار الصدر لا تبدو راضية عن نزعة زعيمهم لمنع المحاصصة، فهم يرددون في الكواليس بلا توقف سؤالاً مفاده: “هل يريد منا السيد أن نتخلى عن حصتنا في المناصب ليحصل عليها غيرنا، كما تخلينا عن حصتنا في الوزارات؟”.

    لكن المشكلة ليست في آلية الاقتسام أيها السادة.. إنها في جوهر مبدأ الاقتسام نفسه الذي كان وما زال متوقعاً أن يتمرد الصدر عليه ويرفض زج اسمه وتياره به، كما يدعم نظرية مختلفة تتعلق بتشكيل “مجلس الخدمة الاتحادي” من الخبراء وليس من السياسيين، وتكليفه بدراسة هيكل الدولة العراقية الحالي بعلاته غير المتناهية واختيار الكفوئين من داخل هذا الهيكل نفسه وفق السياق المهني لتولي المناصب المفصلية في المؤسسات.

    والفلسفة الخاطئة نفسها التي تستند إليها نظرية الاقتسام الحالية، تلجأ إلى الدمج القسري بين مفاهيم مختلفة تماماً كالآتي:

    أولاً: التعامل مع المنصب الإداري والفني في المؤسسات، على أنه منصب سياسي وحزبي أسوة بمنصب الوزير.

    ثانياً: ترجمة مفهوم “التوازن” في مؤسسات الدولة، من كونه معياراً أخلاقياً ومهنياً على أساس مبدأ المساواة والتكافؤ في الفرص لكل السكان، إلى اعتباره معياراً حزبياً وطائفياً وقومياً عددياً.

    ثالثاً: تجاوز آليات الدولة التقليدية التي تعتمد الخبرة والتسلسل الوظيفي والسيرة المهنية والنزاهة إلى تسليم الدولة لقناعات مجموعة أشخاص يوزعون مقدراتها فيما بينهم!

    رابعاً: فتح الباب للفساد الأكبر، عبر السماح بتنافس يقوم في الغالب على نظرية “الرشوة” التي بدأت روائحها تنتشر.

    خامساً: التعامل مع منصب إداري أو فني متخصص تابع لسياق الدولة، على أنه منصب تابع لحزب، وبالتالي فإن المدير الذي يجلبه حزب ما سيكون عليه خدمة أغراض ومصالح وصفقات بل حتى موظفي حزبه في المؤسسة التي يديرها.

    قبل المضي إلى هذا الخيار، وقبل استخدام شعار أن خريطة “دولة الوكلاء” أسسها المالكي لصالح حزبه في مراحل سابقة، وأن ما يجري اليوم هو محاولة لتعديل المسارات وليس الهدم، يجب الانتباه إلى أن تصحيح الأخطاء لا يتم عبر أخطاء أكبر، وأن اقتسام الدولة ليس جواباً لأسئلة العراق الحائرة.

    شاركـنـا !
    
    التعليقات مغلقة.
    أخبار الساعة