نتذكر سبعينيات القرن الماضي وبداية تحويل البلاد العراقية إلى حقلٍ لتجارب البعث القومية، وتقزّيم العراق بتحويله إلى قطر وشعبه إلى جزء من أمة مفترضة لم يثبت التاريخ المعاصر حقيقة كينونتها الفعلية، واستيراده على تلك الخلفية، ملايين المصريين والمغاربة وغيرهم من سكان تلك البلاد التي افترضها تشكل دولة موحدة ذات يوم، ليؤسس منها نواة ذلك الكيان الذي كان يخدّر به الأهالي، وهو كيان الوحدة والحرية والاشتراكية الذي انّهار قبل سقوطه أبان الاحتلال الأمريكيّ، حيث سقط في ضمائر الناس ولم يتحول طيلة ما يقرب من نصف قرن في البلدين السوري والعراقي إلى فكر أو ثقافة اجتماعية، ولم تنصهر تلك الارتباطات بالوطن الأم على حساب الوطن المفترض في دولة الوحدة، وكذا الحال مع بقية التجارب العاطفية التي دفعت شعوبها أثماناً باهظة لتلك المغامرات الوحدوية الفاشلة، سواء في ليبيا أو مصر أو سوريا أو اليمن، حيث انتهت جميعها إلى نتائج بائسة، أدّت الى تباعد أكثر بين شعوبها، بل بين مكوّنات تلك الشعوب. في دول الخليج تجاوزت اعداد العمالة الاسيوية حتى عدد سكان بعض دولها، مما ترك ظلالا قاتمة على كثير من السلوكيات لدى الاطفال والشباب، وفي التجربة العراقية والليبية حيث فُتحت أبواب البلاد أمام كل من هبَّ ودبَّ وبتسهيلات لا مثيل لها في كلّ بلدان العالم، دون الأخذ بعين الاعتبار لمصالح المجتمع العليا والأمنَين الاجتماعي والأخلاقي المتعلق بالعادات والتقاليد والممارسات الاجتماعية، فدخلت البلاد أفواجاً كثيرة من الباحثين عن العمل والغنى في بلاد نفطية، تسرّب من خلالها أيضاً أعداد كبيرة من الفاشلين والمجرمين وأصحاب السوابق والسراق والمزورين وأنماط كثيرة من المنحرفين في مختلف أنماط القيم والعادات والتقاليد إلى مجتمعات كانت وما تزال خاماً ومحافظاً ونقياً بالمقارنة مع الجهات التي قَدِموا منها، وفي مرحلة حرب ضارية انهمك بها النظام العراقي والليبي مع دول الجوار، والتي أدّت إلى إفراغ البلاد من الأيدي العاملة من سن 18- 30 عاماً، حيث تمّ تجنيدهم جميعاً للحرب، إضافةً إلى تجنيد ما فوق هذه الأعمار في قواطع ميليشيا ما كان يُسمى بـ”الجيش الشعبي” أو اللجان الشعبية في ليبيا، مما أتاح دخول هذه الفئات الوافدة إلى كلّ مفاصل الحركة الحياتية في الدولة والمجتمع وبملايين الرجال من المصريين والمغاربة والسودانيين واليمنيين والارتيريين وغيرهم من البلدان العربية، الذين اندفعوا أفواجاً في معظمهم من الفلاحين غير المؤهلين والعمال غير الفنيين وقلة نادرة من الاختصاصات العلمية والأكاديمية، إضافةً إلى أعداد كبيرة من خريجي السجون والمشبوهين وحتى المحكومين الهاربين. ولكي نكون منصفين فإن مجتمعاتنا كانت الأنظف حتى دخول تلك الأفواج، وهنا لا أقصد الشريحة الأكاديمية والخبرات الفنية فهي تستحق كلّ التقدير والاحترام؛ هذه الشرائح التي كانت تنتقد السماح لهذه الأفواج بالدخول إلى العراق متهكمة بأننا أفرغنا لهم كلّ السجون في بلدانهم إلى حد أن شوارعهم تنظفت من الرعاع والمجرمين والمتسولين، الذين نقلوا إلى مجتمعاتنا أنواعاً رهيبة من فيروسات الانحراف بكلّ أشكاله من (الفهلوة) والتي تجاوزت كلّ أنواع (الكلاوات) العراقية البسيطة قياساً بما استورد لها القائد الضرورة، واليوم وبعد أكثر من سبعة عشر عاماً على سقوط تلك التجربة المريرة، وأكثر من ربع قرن على فشل وهجرة تلك الملايين التي فشل النظام في توطينها، تركت ورائها مخلفات سلوكية غريبة، تسببت في تمزيق النسيج التربوي والقيمي والسلوكي في مجتمعاتنا، يعود البعض إلى ذات الثقافة الفاشلة سواء في المبدأ أو التطبيق فيفتح الأبواب أمام هجرات وزحف من أنماط بشرية تحت أغطية قوميّة أو مذهبية متعصبة، لا هم لها إلا الارتزاق ونخر الوطن ومسخ عاداته وتقاليده دون أي وازع يمنعها، فهي لا تنتمي إطلاقاً إلا لمصالحها الذاتية ولا يمكن سلخها من انتمائها الأصلي مهما كانت تلك الأطروحات التي يطرحها منظرو القومية الشوفينية والتعصبية الدينية أو المذهبية، حيث فشلت كلّ هذه المحاولات في العراق واليمن وسوريا وليبيا وغيرها من البلدان التي اجتاحتها حمى القومية المفرطة أو التعصب الديني والمذهبي.