لم يشكل رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، حزباً سياسياً، وأعلن مراراً أنه لا يريد الترشح لولاية ثانية على عكس جميع رؤساء الوزراء الذين شغلوا هذا المنصب وانشقوا عن أحزابهم الأم حباً بالمراكز.
إلا أن أوساطاً عدة من قلب الحدث السياسي العراقي تؤكد أن الكاظمي لن يترشح ولكنه سيقبل أن يرشحه الآخرون وأن يتمنون عليه العودة لتسلم الكرسي لولاية كاملة. إلا أن ذلك لن يحصل من دون مقاومة مرشحين آخرين أقوياء لا
لا يستخفن أحد بالقوى التقليدية السياسية التي تحكم العراق وتملك خبرة واسعة سياسية وتحالفية وقدرة على إدارة الانتخابات، رغبة بالحصول على أكبر مقاعد نيابية لحصد المراكز السيادية والخدماتية في الحكومة و اختيار رئيس الوزراء المقبل.
فعند انتصار رئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري، اعترضت الأحزاب الشيعية عليه وهددت بكسر عصا التحالف الشيعي السياسي. فما كان من الجعفري إلا أن خُير بين التنحي أو اختيار بديل عنه.
فوقع اختياره على نائبه في «حزب الدعوة»، نوري المالكي بهدف المحافظة على الموقع المهم تحت مظلة الحزب نفسه.
وحين حكم المالكي، أزاح الجعفري من السلطة وأسس حزباً آخر باسم «دولة القانون». ويقول السفير الأميركي السابق لدى العراق خليل زلماي زاد، إنه التقى المالكي وأعطاه موافقته وموافقة الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش على إعادة انتخابه للدورة الثانية.
إلا أن الأحزاب الشيعية – التي كانت تملك القدرة لتنحية المالكي أو إفساح المجال له للعودة – اشترطت عليه بنوداً أهمها المشاركة في الحكم. فوافق ولكن الاتفاق بقي حبراً على ورق من دون أن يبصر النور أبداً.
وأراد المالكي العودة إلى رئاسة الوزراء للمرة الثالثة، فوقفت مرجعية النجف الممثلة بالسيد علي السيستاني في وجهه، وأرسلت كتاباً إلى بغداد ترفض فيه عودة المالكي خصوصاً بعد أحداث 2014 وسيطرة تنظيم «داعش» على ثلث العراق. فتم اختيار عضو قيادي في «الدعوة» كرئيس للوزراء بحركة التفافية على المالكي عبر تعيين حيدر العبادي، الذي أسس حزباً سياسياً تحت اسم «النصر».
تعددت الأسباب التي من أجلها رُفِض العبادي للدورة الثانية وعلى رأسها إعلانه «احترام العقوبات على إيران» وعلاقته السيئة بقائد الحرس الثوري الإيراني – فيلق القدس اللواء قاسم سليماني (رغم تحسنها في الأشهر الأخيرة من ولاية العبادي)، إلى موقفه السلبي من «الحشد الشعبي». إلا أن التحالف الشيعي القوي الذي يملك 179 مقعداً من أصل 329 (يحتاج التحالف الأقوى للنصف زائد واحد أي 165 لاختيار رئيس الوزراء)، جاء بعادل عبدالمهدي كحل وسط يرضى به الأميركي والإيراني حتى ولو كان سليماني من أصرّ عليه ورغم ادعاء موفد الرئيس الأميركي برت ماكفورك، بحسب ما قاله، ان عبدالمهدي كان اختياره هو.
إلا أن عبدالمهدي كان عراقياً بامتياز، لا يملك الحزب السياسي القوي خلفه ولا يتعامل بالقوة ولا بالعنف ولا بالسلطة المطلقة بسبب شخصيته غير الصدامية والبرغماتية والتي تميل إلى التوافق والحوار، على عكس أسلافه في الحكم. وبسبب عدم وجود قوة سياسية تدعمه، اعتبر عبدالمهدي ضعيفاً.
قبل سنوات على اختياره كرئيس للوزراء، وعندما شغل منصب نائب رئيس الجمهورية، كنت موجوداً في كربلاء وكان عبدالمهدي برفقة بعض الوزراء حينها في مناسبة خاصة.
فقال حينها وبصدق «علينا إعادة فتح مكاتبنا التي كنا نملكها في سورية أثناء حكم صدام حسين لأننا لم نفهم طريقة الحكم بل لقد تعلمنا أن نكون في صفوف المعارضة».
وارتكب عبدالمهدي خطأين في نظر أميركا: أولهما الاتفاق الممتاز مع الصين بتقديم ما يوازي مليار ونصف المليار دولار من النفط في صندوق تضع مقابله الصين مشاريع إنمائية لبناء البنية التحتية بقيمة 12.5 مليار دولار، وهذا ما رفضته أميركا بكل قوة.
أما الخطأ الثاني فهو ذهابه إلى البرلمان لطلب انسحاب أميركا من العراق. وتحرك الشارع العراقي «التشريني» (الذي اشترك فيه بداية انصار السيد مقتدى الصدر قبل ان يفرض هو على المتظاهرين إخلاء الساحات بالقوة) ضد عبدالمهدي الذي أصر على التنحي وعدم التجديد له لولاية أخرى.
إلا أن النقاش والصراع على اختيار رئيس الوزراء البديل لعبدالمهدي، كان بدأه سليماني ولم تنجح اللقاءات الماراثونية باختيار رئيس للوزراء إلى أن اغتيل على يد أميركا.
وكان اسم مصطفى الكاظمي قد طرحه السيد عمار الحكيم بداية، إلا ان المالكي والعامري رفضاه لأنهما أرادا المنصب لنفسيهما.
ولكن اغتيال أميركا لسليماني دفع الساسة العراقيين إلى قبول الخيار الوحيد المتاح لهم على أسس هي: أولاً، لا يملك الكاظمي أي حزب سياسي يحميه (على غرار سلفه عبدالمهدي) حتى ولو كان الحكيم والعبادي خلفه.
فهما مجتمعان لا يملكان ما يملكه «ائتلاف الفتح» الذي يرأسه العامري ولا «سائرون» بقيادة الصدر.
ثانياً: تقدم الصدر لدعم الكاظمي وأراد حصة الأسد في الحكومة (وإلا أنزل التظاهرات «المليونية» كالعادة) فرضخ له الكاظمي.
وحصل الصدر على ما طلبه في كل الوزارات ومراكز الدولة وممثلياتها الديبلوماسية في العالم.
وحاول الكاظمي إظهار قوته – من خلال مستشارين له نصحوه خطأ – بتوجيه ضربة الى «الحشد» حتى ولو كان سباقاً بارتداء زي «الحشد» وزيارة مقره وإعلان حمايته.
إلا انه في حادثتي اعتقال عدد من أفراد «الحشد» وإلقاء القبض على قائد أمني فيه على يد جهاز أمني آخر أظهر ضعفاً في الإدارة والدخول في أبواب تُضعِفُ رئيس الوزراء ولا تزيد من رصيده، خصوصاً انه فشل في إظهار سلطته في الحادثتين.
إلا أن الكاظمي أظهر براعة في محاولة استيعاب إيران وأميركا وطلباتهما.
وقدم للقوى السياسية ما أرادت من الحكم ومن الامتيازات من دون أن تأخذ منها.
كما حافظ على علاقة طيبة مع الرئيس السوري بشار الأسد الذي تواصل معه مباشرة.
وكذلك أظهر الكاظمي أنه يستطيع تنظيم مصالحات إقليمية بين إيران والسعودية (ثلاث جولات، وجولة رابعة يتم التحضير لها)، وبين إيران والأردن ومصر، كل على حدا، وبين دول المنطقة وفرنسا خلال قمة بغداد الأخيرة والتي جمع قطر ومصر وفرنسا والكويت والسعودية والإمارات وإيران والأردن.
وقد دل ذلك على قبول دول الجوار لشخص الكاظمي بعلاقته الجيدة مع أميركا التي ساهمت بإنجاح المؤتمر.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الكاظمي أدرك أن بلاده لا تزال مسرحاً للمعارك بين أميركا وإيران، فما كان منه إلا أن توجه إلى طهران أكثر من مرة بشكل شخصي وعبر موفدين ليبقى الباب مفتوحاً مع الجار وليطلب منه أيضاً المساعدة والتدخل لإمداد العراق بالكهرباء وكذلك لممارسة نفوذها لوقف الهجمات على القوات الأميركية التي – بحسب الكاظمي – ستغادر العراق.
كل ما يفعله الكاظمي يدل على رغبته القوية في إكمال خطواته ومشاريعه الإقليمية التي بدأها ولم يتسن له إنهائها لأنه انتخب على أساس إجراء انتخابات نيابية مبكرة وإخراج القوات الأميركية.
وقد أسَّرت العديد من الدول التي تملك نفوذاً في العراق، أنها لا تمانع ببقاء الكاظمي لدورة كاملة مستقبلية رغم رفض المالكي – الذي يريد العودة إلى الحكم – لهذا الطرح.
إلا أن الإشارات تدل على ارتفاع حظوظ الكاظمي أكثر بكثير من المالكي الذي امتطى حصان دعم «الحشد» والفصائل ولكنه كسب عداوة عدد كبير من السياسيين، وعلى رأس هؤلاء حلفاؤه القدامى.
في حال قُبلت نتائج الانتخابات أم تم الطعن بها، فإن اداء الكاظمي الداخلي والإقليمي والدولي يضعه في مرتبة جيدة للبقاء في مركزه خصوصاً أن أحزاباً سياسية شيعية (الصدر والعامري وغيرهما) لا تمانع في بقائه بالحكم، ليصبح الكاظمي غير المرشح لرئاسة الوزراء، المرشح الأوفر حظاً.