الناصرية… قدمت الكثير و تشهد إهمالاً عمرانياً وغياباً للاستثمارات والمشهد الثقافي لا يخلو من مفارقات

     

    حسام السراي

    للوهلة الأولى، تبدو مدينة الناصرية العراقية للزائر مثقلة بالنتائج الدموية لـ”حراك تشرين” 2019، حيث تتوزع صور الضحايا على واجهات المقاهي والجدران، ولا أثر يذكر للإعمار في شوارعها، وكأن الحكومات تعاقبها على حراكها الثوري.

    في المدينة التابعة لمحافظة ذي قار، جنوب شرقي العراق، بقايا من غرافيتي “ثورة تشرين” وجيل شاب متطلع تعلو محياه طيبة أهل الجنوب المعروفة وشيء من الانكسار إزاء واقع مدينة مخربة تخلو من ملامح التحديث والاعتناء بالفضاءات العامة.

    روح شبابية جديدة

    من يتجول بين شطري المدينة، المسميين الجزيرة والشامية، يلحظ الروح الجديدة للشباب هناك من خلال محاولاتهم إنشاء مقاهٍ بطابع عصري يقترب مما في بغداد، سواء عبر التسميات أو بالديكورات التي تعبر عن المزاج والرغبة بالتطور، كما في مقهى “عكد الهوى” و”حلوى وكتاب”، فهناك تجد رسمات للمطربة اللبنانية فيروز ورفوفاً تحتضن كتباً متنوعة، ويبدو واضحاً أنه لا يد حكومية أو حزبية في مثل تلك المشاريع.

    في جانب “الجزيرة”، ساحة الحبوبي التي شهدت الاحتجاجات، وتعلوها اللافتة المؤثرة “الخائفون لا يصنعون الحرية”، وأحياء أور وأريدو وسومر والصالحية، بينما في “الشامية” الشموخ والشعلة والإسكان ومنطقة آثار أور. الجانبان تربطهما ثلاثة جسور هي النصر والزيتون والحضارات، ويبقى “الزيتون” الجسر الأبرز، بما يحمل من ذكرى مأسوية للمجزرة التي حصلت فيه أيام تشرين وحصدت أرواح العشرات من الشباب.

    مع حركة افتتاح مطاعم ومقاهٍ ومحطات تعبئة أهلية للوقود، يبدو أن الناصرية في حاجة لما هو أكثر من ذلك، غير تأثيث الشوارع وبناء مجسر هنا وهناك، وبعضها أصلاً لم ينجز منذ 10 أعوام على البدء به، فضلاً عن مجمعات سكنية استثمارية لم يكتمل معظمها.

    في قضاء الفهود الذي يبعد عن مركز الناصرية 65 كيلومتراً شرقاً، ما زالت هناك بعض المدارس الطينية بسقوف من الخشب والصفيح “الجينكو”، ما يدل على غياب يد المؤسسات الحكومية عن الواقع هناك، بينما تبقى مداخل المدينة في حال متواضعة، سواء من جهة بغداد، والبصرة، وطريق الغراف – الرفاعي، وجهة طريق سيد دخيل – الفهود للقادمين من محافظة ميسان.

    إحدى العلامات على تردي الواقع العمراني أن مبنى محافظة الناصرية بقي كهيكل من دون إنجاز منذ عام 2012، بينما لا يفضل المستثمرون ضخ أية أموال في مشاريع المدينة، وهو ما يرجعه التاجر مرتضى جبار إلى الإجراءات الروتينية، وغياب التسهيلات اللازمة، وكثرة الاستقطاعات من جانب بعض المتنفذين، إضافة إلى أن القوة الشرائية في المدينة، ليست مثل بغداد والبصرة، حيث الأولى عاصمة، والثانية فيها منافذ حدودية وحقول نفطية، بينما الأهوار والآثار في ذي قار لا يحققان الحركة الاقتصادية المطلوبة.

    جيل تشرين: مآسٍ ومآثر

    منتظر العصاد، أحد الشباب الذين شاركوا في “ثورة تشرين”، يقول “ما قبل (تشرين) أفضل مما بعدها، لحدوث فوضى تتحملها بعض العناصر المدعية بأنها المضحية ولا تحترم كائناً من يكون في المدينة، وهم موظفون تم تعيينهم عام 2019 في البلدية والمحافظة، وعموم الشباب اليوم لا يثق بأي حزب، صحيح أن مقار الأحزاب غير موجودة على أرض الواقع، لكنها تتحرك كتنظيمات”.

    قصة صفاء علي حسين علاوي، وهو من شباب الناصرية الذين شاركوا أيضاً في “ثورة تشرين”، تعطي دلالات عن حجم مأساة هذا الجيل الذي خرج قبل خمس سنوات ليدافع عن أحلامه ويرفض الواقع العام بما فيه من فساد وفشل في إدارة الدولة. يقول صفاء، “تعرضت للإصابة بطلق ناري في شارع النيل تحت جسر نبي الله إبراهيم بتاريخ 3 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، وهناك قانون لتعويض ضحايا الأخطاء الحربية والعسكرية، لكنني لم أتسلم أي تعويض، بينما حصل عليه آخرون بالتزييف”.

    ويضيف، “جميع الشباب المخلصين لـ(تشرين) لا يقبلون بما يجري باسمها في المدينة، ولو عاد بي الزمن لم أكن لأشارك فيها، لأن لدينا اعتراضاً على من صعد باسم ثورتنا”.

    قدمت الناصرية قائمة من الضحايا، يتصدرهم عمر سعدون الذي صار اسماً أيقونياً ومأثرة للتضحية ومعنى عالياً في استبسال الجيل الجديد بأن يفدي الوطن بروحه، لذا كانت قصة مقتله هو وصديقين آخرين هما عباس ماجد وسيف علي مانع، نقطة فاصلة في تاريخ شباب هذه المدينة ودورهم في الاحتجاج على مستوى العراق ككل.

    يقول الشاب إبراهيم عبدالجليل، صديق عمر لـ”اندبندنت عربية”، إن “الموضوع كان عفوياً، حيث أتى المحبون والمتعاطفون مع حادثة عمر ورفاقه ليضعوا الورد والإعلام العراقية على المكان الذي سقط فيه الراحل، ثم اقترحنا تحويل مكان المأثرة إلى الرصيف المجاور”، ويقر بأن طموح تخليد هذه الشهادة كان أكبر مما أنجز، بتوثيقها عبر نصب تذكاري، إلا أن الكلفة المادية كانت هي العائق، ليكون الرصيف حالياً مكاناً للأمسيات الرمضانية وأعياد الميلاد وإحياء مناسبة الفالنتاين فيه كل عام.

    متغيرات ما بعد 2019

    مع غياب أي مقر رسمي للأحزاب منذ “ثورة تشرين”، وحتى اليوم، لم يعد أمام الشباب سوى المقاهي والمجالس الخاصة، وهي حالة تختص بها الناصرية دون أية مدينة عراقية أخرى، فباتت أمام واقعين سياسي واجتماعي مختلفين، يتطلبان قراءة دقيقة للمتغير الذي فرضته “أحداث تشرين”، فباتت المدينة مساحة رفض مطلق لما هو حاصل وأيضاً مظلة بحث عن مخرجات سياسية جديدة.

    الناشط السياسي عمار خضير يقول إن “(تشرين) كانت علامة فارقة بين الاحتجاج المتمثل في العمل الجماهيري غير المنظم والعمل السياسي المنظم، فهي بالدرجة الأولى نبهت إلى العمل السياسي بنحو أساسي، وينبع ذلك من نقطتين جوهريتين، الأولى هي اليأس من المطالبة بعد التجربة المريرة للأحزاب القديمة، والثانية هي الرغبة في إحلال بديل حقيقي من الطبقات المعارضة والمحتجة نفسها”.

    ويضيف، “مفاد هذا كله يؤشر إلى نقطة بداية لعمل سياسي يولد من هذه المدينة ويكون محركاً فعلياً لمزاحمة الطبقة السياسية، وهو ما حصل فعلاً على رغم تلكؤ البداية، لكن الأفق يلوح بعمل جبار وعلى المدى الطويل”.

    نقاء الثقافة وشبابها

    المشهد الثقافي والفني للمدينة ولاد، ولا يخلو من مفارقات، بين نسق معتاد ومستمر للفعاليات يمكن تلمُّس أصدائه في مقهى الأدباء بشارع النيل، ومن إعلانات لتواقيع كتب ومعارض تشكيلية، إلى تموضع عصري ينتمي للنبرة الاحتجاجية التي تعالت بعد 2019، في مجموعات ثقافية آخذة بالتشكل والظهور، ومنها فريق Pure السينمائي الذي يصفه مؤسسه الفنان سجاد نزار بأنه تكوين طامح يحاول أن يشتغل بخطوات خارج الإطار المعتاد في الحراك الثقافي العراقي. ربما اسم الفريق من وحي نقاء وجوه الشباب التي تقاوم الخيبات.

    شاركـنـا !
    
    التعليقات مغلقة.
    أخبار الساعة