رأى معهد “المجلس الأطلسي” الأمريكي، إن السلطات الشيعية الدينية في العراق كانت أكثر من شهد تغييرات في سلطاتها ونفوذها بعد العام 2003، وأصبحت في الوقت نفسه تتمتع بقوة وموارد لا مثيل لها، مشيرا إلى انها باتت تمثل “بديلاً ثقافياً” يواجه الفكر الغربي.
وأوضح المعهد الأمريكي في تقرير تحت عنوان “صعود الفاتيكان الشيعي في العراق”، ترجمته وكالة شفق نيوز، ان المرجعية الشيعية، بما في ذلك الوقف الشيعي الذي يهتم بادارة الممتلكات الثقافية والأضرحة والعتبات الشيعية، تتمتع بقوة وموارد لا تضاهى، وأنه منذ العام 2003، لم تشهد أي جهة تغييرا في سلطتها ونفوذها أكثر من السلطات الدينية الشيعية في العراق.
استقلالية المرجعية عن الدولة
واشار التقرير الى انه منذ السنوات الاولى للاحتلال الامريكي، كانت تجري محاولات للتحرر من ارث الديكتاتورية من جانب طبقة رجال دين شيعية المتمثلة بالمرجعية، لضمان استقلاليتهم، مضيفا أنه بعد 20 سنة، تحقق هذا الهدف، وهي نتائج تساهم في تغيير العراق ومشهد التراث الثقافي في البلد.
واعتبر التقرير؛ أن الغرب منذ تأسيس العراق هو الذي أثر في تشكيل جسد التراث الثقافي للعراق من خلال أدوار المؤسسات الأمريكية والاوروبية، وأن الغرب هو الذي عمل على انشاء المتحف الوطني، وميدان التنقيب عن الآثار، والهيئة العامة للآثار والتراث، وهي تبعية معرفية ممأسسة، جرى توريثها واستمر هذا الوضع الى يومنا هذا بدرجة كبيرة.
لكن التقرير لفت إلى أن ذلك يتغير خلال السنوات الماضية، حيث يجري نشاط أصيل منفصل عن الممارسات الغربية، ومرتبط بإدارة موارد ثقافية من جانب الإسلام الشيعي.
توسع اقتصادي سريع
واوضح التقرير ان التوسع السريع للمزارات الشيعية والممتلكات التجارية المملوكة من قبل الوقف الشيعي، وهي مؤسسة معتمدة من الدولة، تعكس وجود سياسة جديدة ومستقلة سعت المؤسسات الدينية الشيعية تاريخيا إلى تحقيقها.
وتابع التقرير ان انجاز هذا الطموح كان لا بد أن يتحقق بسرعة بعد القمع العنيف الذي عانى منه المجتمع الديني الشيعي خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، مضيفا ان المؤسسات الدينية المتعددة، تتحكم الآن في استثمارات مرتبطة بالفنادق والعقارات والمستشفيات الخاصة والجامعات والمصانع والبساتين، بالاضافة الى عوائد السياحة الدينية.
وذكر التقرير أن اقتصادا سياسيا جديدا ظهر، وهو يستند على مجموعة واسعة من المؤسسات المرتبطة بطبقة رجال الدين الشيعة، وهو بمثابة “كيان حكومي داخل العراق”.
وبناء على الاستثمارات المتنامية، قال التقرير ان الاوقاف والمراقد الشيعية تعمل على توسيع الاضرحة القائمة وبناء المئات في انحاء البلد كافة، وهو ما يؤدي الى انشاء شبكة من المواقع الثقافية والدينية على مستوى البلاد، بما يساهم في توسيع شبكة الحج الشيعية المربحة والسياحة الدينية.
وذكّر التقرير بأن النظام البعثي كان يفرض قيودا مشددة على توسيع الأضرحة قبل العام 2003 وحاول تقييد النشاط الديني والسياسي للشيعة.
التنافس السني
ولفت التقرير الى وجود تنافس مع السنة في التوسع والسيطرة على الأراضي والمواقع الثقافية والدينية، مضيفا أنه مع مرور الوقت، سيؤثر توسع الاضرحة الشيعية بشكل كبير على البيئة الحضرية والجغرافية المحيطة بها.
واضاف ان مؤسسات الدين الشيعية راحت تكتشف مع زيادة بروزها الديني والسياسي وتوسعها، أن لديها مسؤوليات في توفير مختلف الخدمات، خاصة في المجال الثقافي.
ونوه إلى أنه بعد حصول هذه المؤسسات على استقلالية مالية، أصبح بمقدورها تطوير وتشكيل جوانب كبيرة من المشهد الثقافي في العراق بالصورة التي تختارها.
واوضح التقرير ان الاضرحة الرئيسية الخمسة في كربلاء والنجف والكاظمية وسامراء، يتمتع كل منها بهيكل إداري لا مركزي، مما يعني وجود مستوى فعال من المنافسة لضمان تقديم خدمات ملموسة لزوارها وحجاجها.
لا مركزية دينية وثقافية
إلا ان التقرير قال ان المراقد كافة تعمل باتجاه هدف واحد وهو تأسيس وتوحيد شبكة واسعة ومتصلة من الأضرحة والاستثمارات، بما يشكل نموذجا لمؤسسة لا مركزية وقوية ثقافيا ودينيا.
وبعدما لفت التقرير إلى ان الحوزة العلمية كانت تاريخيا راعية ومنتجة للمعرفة والكتابة، قال انه بالامكان ملاحظة لمحة من المبادرات في مجال التراث الثقافي والتي تشمل تطوير المتاحف التراثية، مثل متحف الامام الحسين، ومتحف الكافل في كربلاء، اللذان يمتلكان مجموعة كبيرة ومتزايدة من المجموعات التاريخية، مشيرا إلى أن هذه المتاحف تعمل على إحياء المهن الحرفية المهددة المرتبطة بالكتابة والفنون والثقافة.
ولفت ايضا الى انه جرى توسيع المكتبات التي تحتوي على مخطوطات اسلامية ثمينة وكتب نادرة، وتأسيس انظمة جديدة للحفاظ عليها وادارتها.
وأشار التقرير إلى أنه لا يوجد مكان آخر في باقي أنحاء العراق يتمتع بهذا المستوى من التنظيم والالتزام بالعمل كما هو في هذه المؤسسات الشيعية، موضحا أن مستوى التنظيم في هذه المؤسسات وهدفها في ادارة الموارد الثقافية والدينية، يظهر كنموذج عراقي شيعي للتراث الثقافي.
ثقافة شيعية تتحدى الفكر الغربي
واعتبر التقرير أنه في “دولة تهيمن عليها المحاصصة السياسية وعجز الدولة بعد العام 2003، فإن السلطة الدينية الشيعية تبرز “كمركز فريد من نوعه للتنظيم والانضباط والتخطيط، وهو عالم لا علاقة له بمؤسسات الدولة المركزية العاجزة والتي تتعرض لضغوط مصالح وجشع الأحزاب السياسية”.
ورأى التقرير أن المؤسسات الشيعية الدينية تتحدى الأفكار المسبقة والمغربلة الغربية المتعلقة بالتراث الثقافي، وهي بذلك تشكل مفهوما جديدا للارث الثقافي في العراق، مضيفا ان المشاهد الثقافية التي تستجد، والتي تهيمن عليها المؤسسات الدينية الشيعية بشكل متزايد، تؤدي الى حدوث تغييرات واسعة النطاق في العراق ومساراته السياسية.
وفي المقابل، قال التقرير إن مستقبل التراث الثقافي الغني والمتنوع في العراق، وخصوصا الذي تجري إدارته من جانب وزارة الثقافة والسياحة والآثار والتي تعاني من عجز كبير في التمويل، يبقى غير واضح ويعاني من الدعم الضعيف من جانب الدولة.
ودعا التقرير الى اهمية تغيير ذلك، برغم ان الحكومات المتعاقبة لم تقم بالكثير من أجل دعم هذه الوزارة الاستراتيجية ومؤسساتها المتعددة، مثل الهيئة العامة للآثار والتراث الثقافي.
تغيير المشهد الثقافي
وختم التقرير بالقول ان تمركز المؤسسات الدينية الشيعية كلاعب وطني في مجال التراث الثقافي قد يؤدي الى تغيير المشهد الثقافي في العراق بشكل كامل. واضاف قائلا انه “سواء كانت هذه المؤسسات الدينية، ستساهم في تغيير العراق، إلا أن عملها قد يؤدي بدرجة كبيرة الى صعود (فاتيكان شيعي)، أو على الأقل سيؤثر في المساحة التي يتم فيها تشكيل هويات العراق ومستقبله”.