الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر
أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن نهاية النظام العالمي الذي نشأ نتيجة لنهاية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي.
جاء ذلك فيما صرح به الوزير الأمريكي مؤخرا، حيث أوضح فكرته بأن ما نشهده الآن “أكثر من مجرد اختبار لقوة النظام العالمي الراهن”، بل إنها “نهايته”. وزعم السيد بلينكن كذلك أن عقودا من الاستقرار الجيوسياسي النسبي مع التوقعات المشرقة المتمثلة في “زيادة السلام والأمن والتعاون الدولي والترابط الاقتصادي والتحرر السياسي وانتصار حقوق الإنسان” كانت قد أفسحت المجال أمام ما أسماه “المواجهة المكثفة مع القوى الاستبدادية والرجعية”.
كذلك وصف بلينكن تصرفات روسيا في أوكرانيا بأنها “التهديد الطارئ والأكثر خطرا على النظام الدولي”، ووصف التحالف بين روسيا والصين بأنه “التهديد الأكثر خطورة للنظام العالمي”، وأشار إلى أن بكين وموسكو تسعيان لجعل العالم مكانا “أكثر أمانا للأنظمة الاستبدادية في شراكتهم التي لا تعرف حدودا”.
ربما يغيب عن ذهن السيد بلينكن أن بلاده قامت بـ 64 تدخل سري من أجهزة الاستخبارات الأمريكية في تغيير الأنظمة حول العالم خلال فترة الحرب الباردة وحدها. وربما لا يتذكر بلينكن أيضاً مسار الأحداث منذ عام 1990 حتى الآن، وهو ما أدى إلى ما أسماه “نهاية النظام العالمي”، وهو بالفعل كذلك، إلا أنه نسي، فيما يبدو، أن يذكر أن النظام العالمي يتبدل بنظام التعددية القطبية، التي سوف تنهي الهيمنة الأمريكية/الغربية على النظام الراهن الآيل للسقوط.
دعونا نذكر معاً، ونذكّر السيد بلينكن بالمرة، ما أدى إلى اللحظة الراهنة، ومدى تورط الإدارات الأمريكية المتعاقبة في إيصال العالم إلى ما وصل إليه اليوم، وما اضطر روسيا إلى القيام بعمليتها العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا.
في العام 1997، خرج إلى النور كتاب زبغنيو بريجينسكي، الشهير “رقعة الشطرنج الكبرى”، ولمن لا يذكر، فقد كان بريجينسكي هو مهندس “الجهاد ضد الإلحاد” في أفغانستان، ومستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي جيمي كارتر في الفترة من 1977-1981، وقد ذكر بريجينسكي في كتابه صراحة أن أوكرانيا هي المحور الجغرافي لأوراسيا. كانت ترجمة ذلك على الأرض هي وجود القوات الأمريكية في كل من أوكرانيا ورومانيا وبلغاريا وتركيا وجورجيا.
وهنا تبرز أهمية القاعدة العسكرية البحرية الروسية في سيفاستوبول منذ 1783، حيث كان الهدف هو حصار هذه القاعدة، وبالتالي السيطرة على البحر الأسود وحجبه بالنسبة لروسيا. من جانبها، كانت القيادة الروسية تدرك هذه الخطة التي باتت واضحة منتصف التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة، بعد أن أخل “الناتو” بوعوده بعدم التمدد شرقاً “لبوصة واحدة” عام 1991، وبدأ في التمدد بضم التشيك والمجر وبولندا في 1999، ثم بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا في 2004. وفي نفس العام شاركت الولايات المتحدة في تمويل ما سمي وقتها بـ “الثورة البرتقالية” التي جاءت بالمرشح الموالي للغرب فيكتور يوشينكو، الذي شغل منصب الرئيس لدورة واحدة، وكان هو من طالب بتمدد “الناتو” ليشمل أوكرانيا. وهو ما اعتبرته روسيا ولا زالت تعتبره خطاً أحمر.
حينها انتقد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في خطابه أمام مؤتمر ميونيخ للأمن، 10 فبراير 2007، الهيمنة الاحتكارية للولايات المتحدة في العلاقات الدولية، والاستخدام المفرط للقوة في العلاقات الدولية دون قيود، حتى أن أحدا لم يعد يشعر بالأمان، وهو ما يحفّز سباق التسلح.
حينما جاء منافس يوشينكو عام 2008 الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، أوقف تلك المساعي نحو “الناتو”، ووجد أن على أوكرانيا أن تكون محايدة، وواجه الغرب بهذه الحقيقة في عام 2008 بقمة بوخارست لدول “الناتو”، وكذلك منح روسيا عقد استخدام قاعدة سيفاستوبول لمدة طويلة، في الوقت الذي واجه فيه ضغوطاً هائلةً من الغرب، وحرص الاتحاد الأوروبي على الربط ما بين عضوية أوكرانيا فيه وفي “الناتو”، كما قام صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الغربية بمزيد من الضغط على الاقتصاد الأوكراني، الذي كان يعاني من أزمات اقتصادية، وقام بما يمكن تسميته بـ “معاقبة” يانوكوفيتش على “حياده” بين الشرق والغرب. وحينما حاول يانوكوفيتش، مطلع العام 2014، تأجيل توقيع اتفاق اقتصادي مع الاتحاد الأوروبي، انتهزت الولايات المتحدة الفرصة ودفعت نحو الانقلاب الشهير، الذي قسّم أوكرانيا بين غربي البلاد، ممن كانوا يدعمون الانقلاب، ويسمونه “ثورة”، ويأتمرون في الوقت نفسه بأوامر السفارة الأمريكية في كييف، ورأينا حينها الرحلات المكوكية لنائبة وزير الخارجية فيكتوريا نولاند ومدير سياسات الرئيس أوباما، ومستشار الأمن القومي لنائب الرئيس حينها، جو بايدن، ومستشار الأمن القومي الحالي جيك ساليفان و عضوا الكونغرس جون ماكين وليندساي غراهام، وبين شرقي وجنوب البلاد، ممن رفضوا الانقلاب ووقفوا مع شرعية الدستور الأوكراني، والرئيس الشرعي فيكتور يانوكوفيتش. وأنا على يقين أن السيد بلينكن يدرك أن نفس العصابة التي قامت بانقلاب عام 2014، هي القيادة السياسية الحالية التي تدير الحرب.
حينها، في 2014، أعادت روسيا ضم شبه جزيرة القرم إلى أراضيها، ومعها سيفاستوبول في استفتاء شرعي جاء بأغلبية رغبة المواطنين في العودة إلى حضن الوطن الأم روسيا. وبهذا أمنت روسيا أحد أهم خطوطها الحمراء في البحر الأسود. وعادت لتحذر الغرب و”الناتو” من مغبة الاستمرار في هذه المغامرة المستهترة الخطيرة.
حينها أيضا، انفصلت جمهوريتا دونيتسك ولوغانسك الشعبيتان ومعهما جزء من الجيش الأوكراني، ممن لم يتفقوا مع الانقلاب، وحينها وقعت القطيعة التي تسببت فيما بعد في أنهار من الدماء، حينما حاول النظام الانقلابي القيام بما أسماه “مكافحة الإرهاب” في شرقي البلاد، وأطلق عمليتين عسكريتين ضد الجمهوريتين اللتين تضمان شعباً أوكرانياً كل ذنبه أنه يتحدث الروسية ويعيش في كنف الثقافة الروسية، ولم يتفق مع نتيجة الانقلاب على الحكومة الشرعية والدستور الشرعي.
كان الهدف واضحاً، واتضح بعد ذلك خلال 8 سنوات بشكل لا يدع مجالاً للشك، فقد انطلق الغرب في تنفيذ خططه للتمدد شرقاً حتى أوكرانيا، التي دججها بالسلاح والعتاد، ونصب قواعده ومطاراته، وقام بمناورات عسكرية وصلت في السنة الأخيرة قبل اندلاع العملية العسكرية الروسية الخاصة إلى 10 مناورات عام 2021. وحتى بعد التوصل إلى اتفاقيات مينسك-1 ومينسك-2 التي لم تنفذهما كييف، واصل النظام هناك قصف المدنيين في مناطق دونباس، فيما واصل الغرب زحفه وتنفيذ خططه الخبيثة في التمدد شرقاً حتى حدود روسيا الغربية مستخدماً النظام النازي الجديد في أوكرانيا كرأس حربة.
في ديسمبر العام 2021، تقدمت روسيا بخطة للضمانات الأمنية تطلب من “الناتو” والولايات المتحدة إجبار كييف على تطبيق مجموعة إجراءات مينسك-2 لتسوية الأزمة الأوكرانية، ووقف توريد السلاح إلى أوكرانيا، وسحب المستشارين والمدربين الغربيين من البلاد، والتخلي عن أي تدريبات عسكرية مشتركة مع القوات المسلحة الأوكرانية، وسحب الأسلحة التي تم توريدها في السابق إلى كييف خارج الأراضي الأوكرانية.
وأعلنت روسيا عن رغبتها تلقي مقترحات ملموسة من الغرب حول التثبيت القانوني لتخلي “الناتو” عن مواصلته التوسع شرقاً، وتنفيذ الالتزامات الدولية في مجال ضمان السلام والأمن الدوليين، وأوضحت روسيا حينها أن مقترحاتها بشأن الضمانات الأمنية تأتي في حزمة واحدة، ويجب النظر فيها دون الفصل بين مكوناتها.
ولفتت روسيا نظر الطرف الأمريكي إلى أن روسيا اقترحت في وثيقتين بشأن الاتفاقيات مع الولايات المتحدة و”الناتو” حول الضمانات الأمنية سبل التسوية الشاملة طويلة الأمد للأوضاع غير المقبولة، التي نشأت عن تراكمات بدأت تسعينيات القرن الماضي، وأدت للخلل الراهن.
إلا أن “الناتو” والولايات المتحدة الأمريكية لم يلتفتا إلى الوثيقتين، فيما واصلت كييف حشد قواتها على حدود دونباس استعداداً للقيام بعملية عسكرية ثالثة لضم جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين اللتان أعلنتا انفصالهما من جانب واحد، ولم تعترف بهما روسيا حتى تلك اللحظة انتظارا لتنفيذ كييف لاتفاقيات مينسك-2، بالقوة إلى أوكرانيا.
اعترفت روسيا، فبراير 2022، باستقلال الجمهوريتين، وطلبت الجمهوريتان مساعدة روسيا في مواجهة الغزو الأوكراني لأراضيهما، ونشبت حينها العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا لحماية جمهوريتي دونيتسك ولوغانس وجنوب وشرق أوكرانيا من تغول النظام النازي الجديد في كييف.
وعلى الرغم من ذلك، وفي شهر أبريل 2022، وبعد بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة، توصلت روسيا وأوكرانيا إلى اتفاق لوقف القتال، على أن تنسحب روسيا حتى حدود 23 فبراير 2022، تاركة أراضي دونباس لأوكرانيا، مقابل أن تتنازل أوكرانيا عن سعيها للحصول على عضوية “الناتو”، وتتلقى ضمانات أمنية توفرها عدد من البلدان. وافقت أوكرانيا وروسيا، ولاح حينها أمل في الأفق أن تتوقف إراقة الدماء بين الأشقاء، وتعود المياه إلى مجاريها.
لكن رئيس الوزراء البريطاني آنذاك بوريس جونسون، ولا أستبعد أن يكون ذلك بمكالمة هاتفية من الرئيس الأمريكي جو بايدن، هرع فوراً إلى كييف، ليقنع زيلينسكي بألا يرضى بتلك المفاوضات، وأن يقطع المحادثات مع روسيا، فبوتين، وفقا لجونسون، “لا يمكن التفاوض معه”، و”الغرب ليس مستعدا لإنهاء الحرب”.
لم يمر شهرين حتى أعلن رئيس الوزراء البلجيكي، ألكسندر دي كرو، في يونيو 2022، أن “الناتو” أبلغ الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي بأن الصراع في أوكرانيا يجب أن يتم حسمه “بالوسائل العسكرية”.. هكذا صراحةً وعلانيةً وجهاراً نهاراً.
لهذا، أهمس في أذن السيد بلينكن بأن الحديث عن تصرفات روسيا في أوكرانيا بوصفها “التهديد الطارئ والأكثر خطرا على النظام الدولي” ينطبق على الولايات المتحدة الأمريكية لا على روسيا، حيث تحاول روسيا منذ فبراير 2022 أن تنهي الحرب التي بدأتها الولايات المتحدة لا منذ 2014 فحسب، وإنما من تسعينيات القرن الماضي، حينما توهمت أجهزة الاستخبارات وتوهم صقور الإدارات الأمريكية المتعاقبة أن تفكك الاتحاد السوفيتي كان معناه “انتصار” الولايات المتحدة في الحرب الباردة، وأن الطريق أصبح ممهدا لهيمنة لا سقف لها للولايات المتحدة على مصائر البلاد والعباد، وتغيير الأنظمة حتى في روسيا.
روسيا سوف تنهي هذه الحرب بنصر مؤزر على الغرب، وسوف يستبدل النظام العالمي الراهن أحادي القطب بنظام متعدد الأقطاب بدأت بشائره الأولى تهلّ بانخفاض استخدام الدولار حول العالم، وسعي الدول إلى سحب استثماراتها في السندات الأمريكية، وما نراه حولنا من تغيير واضح في التوازنات الدولية، ورغبة مراكز القوى الجديدة في إيجاد تمثيل لها في المحافل الدولية، ومشاركتها في صناعة القرار على المستوى الدولي، وخاصة في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة.