الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر
في حوار استمع إليه القاصي والداني، وحقق مشاهدات غير مسبوقة على موقع التواصل الاجتماعي X (150 مليون مشاهدة لحظة الانتهاء من هذا المقال)، شرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على مدار ساعتين، للمذيع الأمريكي، الذي لم يتوقف عن مقاطعته، وطرح أسئلة بدا بعضها ساذجا وسطحيا، وللعالم وجهة نظر روسيا بشأن العملية العسكرية الروسية بأوكرانيا والتغيرات التكتونية التي طرأت على عالمنا في العقود الأخيرة، لا سيما في العامين الماضيين.
يرى الرئيس بوتين أن العالم الذي يتكون من نصفين “كما هو الحال في فصّي الدماغ” مصاب بمرض عضال، حيث ينقسم اليوم إلى تحالفات وتكتلات، حيث قال إن العالم (الكرة الأرضية) نفسه منقسم إلى نصفين، شأنه في ذلك شأن “فصّي الدماغ”، أحدهما مسؤول عن بعض الأنشطة، وربما يكون الآخر “أكثر نشاطا في المجال الإبداعي” وهكذا. وتابع: “لهذا يجب أن يكون العالم متحدا، وأن يكون الأمن مشتركا، وليس مصمما لخدمة المليار الذهبي”. وحينها فقط، وفقا لبوتين، “سيكون العالم مستقرا ومستداما ويمكن التنبؤ بأحداثه”.
وشدد بوتين على دور “الصحافة الأمينة” التي تمارس عملا “يشبه عمل الأطباء في هذه الحالة”، من بين أمور أخرى، في “إعادة ربط (فصّي الدماغ)”.
في هذا اللقاء التاريخي لبوتين، والذي استمر زهاء ساعتين، أكد الرئيس الروسي أن روسيا وأوكرانيا سوف تتوصلان إلى اتفاق عاجلا أم آجلا، وشدد على أن العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا لم تحقق أهدافها بعد، والمتمثلة بشكل أساسي في اجتثاث النازية من الجسد الأوكراني العليل، وهو ما يعني ضمنا منع حركات النازيين الجدد هناك.
وعاد بوتين ليؤكد على رغبة روسيا في تسوية الأزمة الأوكرانية عبر المفاوضات، وقال: “لقد عرضت روسيا مرارا وتكرارا على أوكرانيا البحث عن حل سلمي للمشكلات في أوكرانيا بعد عام 2014، لكن أحدا لم يستمع إلينا”. وأضاف: “لقد بدأ الغرب الآن يدرك استحالة هزيمة روسيا استراتيجيا، لذلك فعليه أن يفكر فيما يجب فعله بعد ذلك، ونحن مستعدون للحوار”، مؤكدا على أن “الناتو قادر على الاعتراف بشكل كاف بسيطرة روسيا على مناطق جديدة، وهناك خيارات إذا ما توفرت الرغبة”.
وأشار بوتين إلى أنه قد أبلغ الرئيس الأمريكي جو بايدن في محادثته الأخيرة معه بأنه “يرتكب خطأ فادحا بدعم أوكرانيا واستبعاد روسيا”.
إن مقابلة بوتين تكتسب أهميتها من توضيح مدى اتزان السياسة الروسية والجهود التي تبذلها روسيا لتفادي احتدام التوتر سواء في القارة الأوروبية أو حول العالم في مختلف المناطق والقارات المختلفة. وأوضح الحوار الخط السياسي الواضح لروسيا في سعيها للانتقال إلى العالم الجديد متعدد القطبية، والذي يسوده العدالة والمساواة والازدهار لجميع دول وشعوب العالم.
لقد كشف بوتين في مقابلته عن مغزى التعددية القطبية في إنعاش وتعزيز دور منظمة الأمم المتحدة، وتفعيل قوانينها وجميع مؤسساتها، ولم يكن تاكر كارلسون ليشد الرحال إلى موسكو لولا إدراكه أن الشعب الأمريكي والشعوب الأوروبية بحاجة إلى توعية، للخروج من التعتيم الغربي على وسائل الإعلام الروسية، وعلى وجهة النظر الروسية بالأساس، لربما تفيق هذه الشعوب، وتلعب دوراً مؤثراً لإنقاذ نفسها بالدرجة الأولى وتفادي التدهور الذي يمكن أن يودي بها إلى الهاوية.
من هنا يبرز الدور التاريخي لـ “الصحافة الأمينة” التي تحدث عنها بوتين، ودور تاكر كارلسون التاريخي في هذا السياق، لا سيما في إنقاذ الولايات المتحدة وأوروبا.
ما لفت انتباهي خاصة، هو لقاء بوتين، في اليوم التالي مباشرة، بكبير حاخامات روسيا بيرل لازار ورئيس اتحاد الجاليات اليهودية في روسيا ألكسندر بورودا في الكرملين، وهو تقليد سنوي يجري بمناسبة ذكرى الهولوكوست.
واللافت أيضا هو عناية الدولة الروسية في الحفاظ على هذا التكاتف بين أبناء الوطن الواحد، ذلك أن كثيرين من بين ضحايا الهولوكوست هم أيضا مواطنين سوفييت. وقد صرح بوتين، خلال اللقاء، بأن روسيا تلتقي وتتواصل مع القيادة السياسية لحركة حماس، وهو ما يؤكد على أن روسيا تعي تماما أن القضية هي قضية سياسية بالأساس، وأن كل ما يروج له الغرب وإسرائيل بأن القضية تتلخص فيما يسمونه “مكافحة الإرهاب” هي أكاذيب وتضليل ودعاية صهيونية مغرضة. فالمفاوضات مع حماس تعني سعيا لحل سياسي للقضية، بما في ذلك قضية الرهائن. ولا أشك أن هذه المفاوضات لا بد وأن تنتهي إلى إنشاء الدولة الفلسطينية.
وكان اتحاد الجاليات اليهودية بروسيا قد عبر عن قلقه، خلال مؤتمر عقده في نفس يوم لقائهم مع بوتين، بحضور ممثلين عن الكنيسة الروسية واتحاد مسلمي روسيا، من تنامي معاداة السامية جراء الأحداث في غزة، ودعا إلى “حل النزاعات سلميا من أجل إنهاء معاناة السكان المدنيين”، وحث على “التوصل إلى حل تفاوضي للصراعات من أجل التحرر من المصاعب والمعاناة التي يتحملها المدنيون جراء وطأة الحرب”.
إن ما جرى في السابع من أكتوبر العام الماضي يمكن مقارنته بالعملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، وهي خطوة من قبل المقاومة الفلسطينية ضد تراكمات الاضطهاد والقمع والتعذيب الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية وعامة فلسطين على مدار نحو سبعة عقود، مثل ما تعرض له الشعب الروسي على أراضي روسيا التاريخية التي كانت حتى وقت قريب تقع تحت سيطرة السلطة النازية في كييف منذ عام 2014.
أعتقد أن ما بدا واضحا للجميع اليوم هو أن الحل الوحيد لتسوية القضية الفلسطينية، هو من خلال الجهود الروسية، وجهود الشرفاء حول العالم، التي تتطابق مع مبادرة السلام العربية من أجل الوصول في النهاية إلى قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، وتمتع الشعب الفلسطيني بحقوقه الشرعية كاملة، وأصبح جلياً أنه من المستحيل تجاهل ذلك أو التحايل عليه.
وقد قررت القيادة الروسية القيام بمبادرة، هي الثالثة من نوعها، لدعوة ممثلي جميع الفصائل الفلسطينية نهاية فبراير الجاري، لإنهاء الخلافات الفلسطينية، والتي نأمل أن يستغلها الجانب الفلسطيني، لإعلان الوحدة الفلسطينية تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، وهي خطوة شديدة الأهمية تتويجا للجهود المبذولة لتوحيد الصف الفلسطيني من جديد، تمهيداً لإعلان قيام الدولة الفلسطينية المستقلة هذا العام.
إضافة إلى ذلك، فسوف تقوم بدعوة القيادة الفلسطينية وممثلي الحكومة الإسرائيلية للقاء في موسكو لبدء مناقشة الإجراءات الخاصة بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
إن السياسة الروسية الخارجية تبنى على المنطق، وعلى الأمانة في التعامل، والثبات على المبادئ والمواقف الراسخة، وقد حاولت وتحاول روسيا دائماً حماية السلام العالمي، وتفادي نشوب حرب عالمية ثالثة، إضافة، بالطبع، إلى حماية الأمن القومي الروسي، والإسهام قدر المستطاع في انتقال العالم من هيمنة القطب الواحد إلى عالم التعددية القطبية. وهذا ما استمع إليه العالم من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً في لقاء تاكر كارلسون، والذي يعد خطاباً للملايين حول العالم، للاستيقاظ من غفوة الأحادية القطبية، والتحرر من براثن الأوهام الأمريكية بالسيطرة على العالم.
سياسة روسيا مبدئية وواضحة ولا تحتمل أي تلاعب، والدور الذي تلعبه على الساحة الدولية واضح، برغم كل محاولات التعتيم والتشويه والتزييف التي تقوم بها وسائل الإعلام وأجهزة الاستخبارات الغربية. سياسة روسيا واضحة وعادلة، عكس السياسات التي ينتهجها الغرب والولايات المتحدة التي تخدم فقط مصالح الغرب والولايات المتحدة على رأسه، وتضرب بعرض الحائط حتى قواعد ومبادئ الرأسمالية واقتصاد السوق وتعصف بمصداقية النظام المالي العالمي (على سبيل المثال لا الحصر: تجميد الأصول الروسية والمحاولات المستميتة للاستيلاء عليها “قانونيا”!).
ربما سيكون من المفيد الآن أن تقوم أي وسائل إعلام عربية أو شخصيات إعلامية لامعة في عالمنا العربي بإجراء مقابلات صحفية مع شخصيات أمريكية نافذة وقادة غربيين، وتوجه لهم نفس الأسئلة التي وجهها تاكر كارلسون لفلاديمير بوتين، وبنفس الأريحية، ولا داعي لساعتين.. فأي من هؤلاء القادة لن يتمكن من إدارة دفة حديث لساعة واحدة، دون الحاجة إلى استشارات واجتماعات ومكالمات هاتفية مع سادتهم في واشنطن.