(الجزء الأول)
بقلم د. أيمن أبو الشعر
• رسائل نووية يبعث بها الرئيس الروسي في الذكرى الثالثة لبدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا
تدخل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا اليوم 24 فبراير عامها الثالث، ومن هنا كانت ظلالها محورية ولكن غير مباشرة في كلمة الرئيس بوتن بمناسبة يوم الجيش- يوم حماة الوطن الذي يجري الاحتفال به عادة في 23 فبراير من كل عام، حيث ركز على مدى الاحترام الذي يتمتع به الجيش لدى الشعب خاصة أنه يستنهض ذكرى الشهداء من الذين سقطوا دفاعا عن الوطن. ذاك أن الجنود الروس اليوم يقاتلون النازية الجديدة وقد قاتل أجدادهم النازية القديمة.
-رسائل بوتن
أكد الرئيس بوتن خلال تهنئته هذه على أن روسيا تواصل تعزيز قواتها المسلحة وتحديثها حيث وصل هذا التحديث في القوات النووية إلى نسبة 95% ونسبة 100% في المكون البحري للقوات النووية، وفي ذلك رسالة نوعية هامة للغرب عموما ولواشنطن على وجه الخصوص.
الرسالة الثانية جاءت بوقت متزامن عمليا حيث قام الرئيس بوتن عشية الذكرى الثالثة لبدء العملية العسكرية في أوكرانيا بتفقد القاذفات النووية الجديدة التي تحمل صواريخ فرط صوتية، وبالتحليق على متن أضخم وأقوى طائرة استراتيجية نووية في العالم وهي الطائرة “تو160 إم” التي حلقت به لمدة ثلاثين دقيقة إمعانا في الطابع الرمزي لهذا التحليق، ذاك أن هذه الطائرة العملاقة التي تتفوق كثيرا على نظيرتها الأمريكية ب 21 حيث تم تحديثها عن نسختها السوفييتية، وإضافة الكثير من التكنولوجيات الحديثة وتركيب منظومات دفاعية خاصة فيها ضد صواريخ أرض جو وكذلك جو وجو، والطائرة النوية الروسية العملاقة هذه تستطيع حمل 12 صاروخا برؤوس نووية، وهي عموما تستطيع حمل 40 طنا من الذخائر ويمكن لها أن تحلق لمسافة 14 ألف كيلومتر دونما حاجة للتزود بالوقود، وتستطيع طائرة واحدة من هذا النوع أم تلغي من الوجود قارة أوروبا بكاملها، وفي روسيا حاليا 15 طائرة منها، وتعمل الحكومة على إنتاج 15 أخرى منها خلال السنوات القليلة القادمة.
الرسالة الثالثة والأخيرة في هذا المجال جاءت أيضا متزامنة مع هذه المناسبة، وكانت مزدوجة التوجه، حيث أعلن مدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي أن الحرب النووية قد تبدأ في أية لحظة حتى دون قصد مسبق، كأن تحلق باتجاه الأراضي الروسية طائرة من طراز اف 16 من دولة في الناتو، إذ ليس لدى أوكرانيا مطارات تستطيع أن تحلق منها هذه الطائرة، وبالتالي سيكون ذلك بمثابة هجوم من الناتو على روسيا مؤكدا أن ذلك محتمل جدا، وأن روسيا لا تُخوِّف أحدا بالحرب النووية كما يدعي جهابذة الغرب.. أما الجانب الآخر فهو أن مدفيديف طرح بوضوح أن روسيا مضطرة لتكريس حزام أمني وقائي بعد زيادة الوعود الغربية حول تزويد أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى، ولم يستثن عمليا أن يتطلب الأمر عسكريا الوصول إلى العاصمة الأوكرانية كييف. وهذا يعني أن روسيا مصممة على تحقيق أهداف عمليتها العسكرية وإن بالغ الغرب في دعم أوكرانيا ستردعه الصواريخ النووية، وموسكو لا تمزح في هذا المجال.
-الانعطاف النوعي في العمليات العسكرية.
الأمر الآخر في آفاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا هو وضوح رجحان كفة القوات الروسية عبر تسارع سيطرتها على مناطق جديدة، فقد أقرت أوكرانيا عمليا بفشلها في تحقيق أي نصر من خلال هجومها المضاد، وتمت إقالة قائد القوات الأوكرانية زالوجني، وتعيين بديلا عنه الجنرال الكسندر سيرسكي، وأقيل كذلك رئيس هيئة الأركان شابتالا وتم تعيين اللواء أناتولي بارغيليفيتش رئيسا جديدا لهيئة الأركان، وقد أوحت القيادة الأوكرانية بذلك بأن الفشل في الهجوم المضاد، وتكبد خسائر كبيرة كانت بسبب الجنرالين السابقين، لكن الأحداث سرعان ما عصفت بالقائدين العسكريين الجديدين، حيث استولت القوات الروسية على مدينة أفدييفكا بعد أيام من تعيينهما، بل ووسعت هجومها لتسيطر على بلدتين أخريين هما بوبيدا على محور دونيتسك، وكرينكي الاستراتيجية في منطقة خيرسون التي حشدت فيها وحولها كييف قرابة ثلاثين ألفا بقصد الاختراق نحو شبه جزيرة القرم، ما يعني أن المخططات الأوكرانية الكبيرة تُعِدُّ لها روسيا أيضا إعدادا كبيرا، حيث فقدت أوكرانيا خلال المعارك في هذه المنطقة وحدها إبان الهجوم المضاد 13 ألف عسكري، كل ذلك بعد أشهر قليلة من تحرير مدينة باخموت الاستراتيجية الكبيرة، هذا ناهيك عن الخسائر الهائلة في السلاح والمعدات والتي تثير الدهشة حقا.
-على الميزان
حين سأل أحد الجنود نابليون ذات مرة في معركة واترلو عام 1815: هل الله مع الفرنسيين الكاثوليك أم مع الإنجليز البروتستانت أجاب “الله مع الذين يملكون مدافع كبيرة”. ربما انطلاقا من تَمثُّل قول نابليون حاولت أوروبا والولايات المتحدة شحن أكبر قدر ممكن من الأسلحة والذخائر إلى أوكرانيا مع رفع شعار ممزوج بأمل واهم، وهو أن أوكرانيا ستنتصر على روسيا بزيادة الدعم المالي والعسكري الأمر الذي يتداخل مع عبارة نابليون بوضوح ولكن مع فقدان الأرضية العملية الواقعية لتحقيق مثل هذه الطموحات.
المفارقة هنا بالغة الوضوح، وربما يكون ما تطرحه موسكو أكثر تعقلا في أنها مستعدة للحوار، وهذا لصالح أوكرانيا التي قد تختفي من الخارطة نهائيا كدولة إن استمرت الحرب. فروسيا أكبر بلد في العالم من حيث المساحة الجغرافية أكثر من 17 مليون كيلومتر مربع، أي أن عمقها يعطيها تفوقا كبيرا من حيث الصمود، وفيها أكثر من 143 مليون نسمة ما يعطيها تفوقا كبيرا في التعبئة العسكرية، في حين أن مساحة أوكرانيا 603 كيلو متر مربع ، وسكانها لا يزيدون عن 44 مليون نسمة نزح منهم قرابة 10 مليون، والمفارقة هائلة في السلاح والقوة البشرية العسكرية، زد على ذلك أن روسيا أيضا أغنى بلد في العالم من حيث الموارد الطبيعية ففيها جميع عناصر ماندلييف، كل ذلك يشير إلى أن أوروبا وخاصة بريطانيا ممثلة برئيس وزرائها السابق -“جونسون” ورّطت أوكرانيا بتشجيعها على الانسحاب من المفاوضات في استانبول، فقد خسرت أوكرانيا بعد ذلك قسما كبيرا من أراضيها، وكذلك القسم الأكبر من الأسلحة التي مدتها بها أوروبا والولايات المتحدة اللتين تبدو محاولاتهما لشد همة أوكرانيا من خلال مدها بأسلحة جديدة لتعوض عن خسائرها خديعة ماكرة تماما، نعم يمكن أن تعوضها عن الأسلحة التي هي أساسا في صالح شركاتها في انتاج السلاح، ولكن كيف ستعوضها عن مئات آلاف الجنود الذين سقطوا في المعارك، ثم إن روسيا كبلد صناعي متقدم ومنتج منافس في سوق السلاح لا تحتاج إلى المساعدات لتصمد وتتابع المعارك في حين أن توقف المساعدات عن أوكرانيا لبضعة أسابيع سيشكل كارثة لها، ولا أدل على ذلك من تصريح البنتاغون نفسه بأن على أوكرانيا أن تختار المدن التي تستطيع الدفاع عنها والحفاظ عليها في حال لم يوافق الكونغرس على المساعدات الإضافية “60 مليار دولار” وإن ترجمنا مثل هذا الإعلان إلى لغة واقعية لرأينا أن البنتاغون يقر بأنه سيكون على أوكرانيا أن تنسحب من مدن وبلدات جديدة بعد باخموت وأفدييفكا وكرينكي وبوبيدا، طبعا هذا بعد سيطرة روسيا على خمس مقاطعات أوكرانية سابقا هي القرم عام 2014، ثم دونيتسك، ولوغانسك، وخيرسون، وزاباروجيه قبل عامين حيث تجري المعارك الآن لتحرير بعض الأجزاء التي ظلت تحت سيطرة القوات الأوكرانية بعد تحرير كامل جمهورية لوغانسك.
يتبع .