الدكتورة أروى محمد الشاعر
تُلهمنا بطولة أرون بوشنيل برسالتها العميقة عن الوحدة والتضامن الإنساني، أرون المسيحي، أثبت بفعلته الشجاعة أن الإنسانية لا تُقاس بالانتماءات الدينية أو القومية ، بل بالقدرة على الوقوف إلى جانب العدل والمساواة، لم ير في الشعب الفلسطيني سوى إخوان في الإنسانية، يعانون من ظلم الإحتلال والقهر ويستحقون الحرية والسلام مثلهم مثل أي شعب آخر ، لقد كان مثالًا حيًا على أن محبة الإنسان لأخيه الإنسان يجب أن تتجاوز كل الحواجز الدينية والعرقية. لم يبحث عن مجد، بل عن عدالة في زمن الجور.
لقد كانت تضحية أرون بحياته دليلًا حيًا على قوة الإيمان والتزامًا عميقًا في الدفاع عن الحق، تُظهر كيف يمكن للأفعال الفردية، مهما كانت بسيطة، أن تلهم التغيير وتحدث فارقًا كبيرًا في العالم. لقد كانت حياته وتضحيته تجسيدًا للمعنى الحقيقي للإنسانية – القدرة على النظر إلى ما وراء الذات والعمل من أجل حرية الآخرين.
أرون بوشنيل ، الذي اختار أن يضحي بحياته احتجاجًا على ما رآه ظلمًا لا يُطاق، قدم نفسه كشعلة تحد ضد الظلام . لم تكن لحظة وفاته مجرد نهاية حياة شاب، بل كانت شرارة لإعادة التفكير في معنى الحرية والكرامة الإنسانية. بكلماته الأخيرة قال:
” لن أكون متواطئًا مع الإبادة الجماعية بعد الآن، فأنا على وشك الانخراط في عمل احتجاجي متطرف، ولكن بالمقارنة مع ما يعيشه الناس في فلسطين على أيدي المستعمرين هناك، فإن هذا ليس عملاً متطرفًا على الإطلاق، وهذا ما قررت طبقتنا الحاكمة أنه سيكون طبيعيا، حرروا فلسطين/Free Palestine “.
توفي آرون بوشنل، ولم ينجو من الحروق بعد أن أشعل النار في نفسه, تاركاً وصية للعالم بإنهاء الاحتلال الصهيوني والإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني المحاصر.
إن البطولة التي أظهرها بالسير نحو مصيره المحتوم، مع العلم بالثمن الذي سيدفعه، تجسدت في رمزية فعله الأخير. لم يكن هدفه إلقاء الضوء على شخصه، بل على قضية كبرى تمس الإنسانية جمعاء.
أرون بوشنيل، الذي تحول إلى أيقونة للشجاعة والتضحية في سبيل القيم التي آمن بها، لم يكن الفعل المتطرف، كما وصفه في نظره يقارن بمعاناة الشعب الفلسطيني. وفي هذا التضحية، يتجلى السؤال الأخلاقي حول معنى أن تكون متواطئًا أو مقاومًا في وجه الظلم، في عمر مبكر، وجد نفسه على مفترق طرق حيث الاختيار بين الواجب المهني كعسكري وبين مبادئه الشخصية التي رفضت تمامًا الظلم والقتل البريء. رفضه كان إعلانًا عن موقف أخلاقي يتجاوز حدود الذات إلى العالمية.
في لحظة مليئة بالأسى والفداء، وقف ضابط أمن السفارة الإسرائيلية يتأمل المشهد، موجهًا مسدسه نحو آرون الغارق في ألسنة اللهب، بدلًا من أن يمد يد العون لإنقاذ روح تتأرجح بين الحياة والموت، مما يدل على القسوة التي يمكن أن يصل إليها البشر عندما يفقدون الإحساس بالإنسانية ويُصبحون أدوات للحرب والدمار.
آرون، وسط النيران المشتعلة، لم يصرخ من شدة الألم، بل استمر ينادي بكلمات “الحرية لفلسطين”، معلنًا عن موقفه الأخير ومؤكدًا على قضيته حتى فقد الوعي وسقط أرضًا ليصبح رمزًا حيًا للمقاومة والصمود.
لقد آثر آرون أن يجعل من حياته رسالة، ومن موته صرخة توقظ الضمائر النائمة في عالم يشيع فيه الظلم واللامبالاة، قرر أن يكون صوتًا لمن لا صوت لهم.
لم يكتفِ بالتعاطف مع الشعب الفلسطيني، بل أراد أن يكون جزءًا منهم وينضم إلى قافلة الشهداء.
إن الأشخاص الذين ينعتون آرون بالجنون تجردوا من الإحساس، وسلبوا أنفسهم جوهر الإنسانية. إن هؤلاء الناقدين، بوقاحتهم واستهتارهم، يكشفون عن فقدانهم للبوصلة الأخلاقية وعن عمق الجهل الذي يتمسكون به، يحاولون تشويه الأفعال النبيلة ويسعون للتقليل من شأن التضحيات الحقيقية. يتجاهلون أن التاريخ مليء بالأشخاص الذين وُصفوا بالمجانين في وقتهم لكنهم أصبحوا رموزًا للتغيير والتطور الإنساني. فهل هناك ما هو أنبل من إنسان يفني حياته متمسكًا بمبادئه حتى آخر نفس؟ آرون لم يكن مجرد شخص فقد حياته في حادثة مأساوية، بل كان فكرة، كان رمزًا للتضحية والعطاء، وكان رسولاً للسلام ينشر رسالته بين الشعوب بأثمن ما يمكن أن يقدمه إنسان – حياته.
كانت وصيته التي تركها :
“إذا جاء الوقت الذي يستعيد فيه الفلسطينيون السيطرة على أرضهم، وإذا كان الشعب الأصلي للأرض متفتحًا لهذا الاحتمال، فسأحب أن يُبعثر رمادي في فلسطين الحرة.” في هذه الوصية تتجلى الإنسانية في أسمى معانيها.
في الطرف الآخر، نجد راشيل كوري، الناشطة الأمريكية الشابة التي ضحت بحياتها في رفح، محاولة منع جرافة عسكرية إسرائيلية من هدم منزل فلسطيني. راشيل، بعمرها القصير وقلبها الكبير، وقفت بشجاعة أمام الجرافة، متحدية الخطر بكل ما تملك من قوة وإيمان بالعدالة ، لكن، وفي لحظة مروعة، دهستها الجرافة، تاركة العالم في صدمة وحزن. قصتها، كما قصة بوشنيل، تحولت إلى رمز للتضحية والتحدي والشجاعة من أجل حقوق الإنسان وألهمت الكثير من النشطاء حول العالم الذين يسعون إلى تحقيق العدالة والسلام في مناطق النزاع.
إن مؤسسة راشيل كوري، التي أسسها والديها بعد وفاتها، تواصل العمل من أجل السلام والعدالة في الشرق الأوسط، وتعمل على دعم الشعب الفلسطيني والدفاع عن حقوق الإنسان. من خلال التعليم والفن والدعوة السياسية، تحاول المؤسسة أن تحمل مشعل راشيل كوري، مشجعةً الأجيال الجديدة على الانخراط في النضال العادل من أجل عالم أفضل.
إن الإرث الذي تركه كل من أرون بوشنيل وراشيل كوري يمثل دعوة مستمرة للعمل من أجل عالم يسوده السلام والعدل، حيث تُحترم الحقوق الإنسانية بلا استثناء.
لقد أصبحوا أيقونات مشرفة لا تنسى، تُلهم الأجيال وتوجه بوصلة الإنسانية نحو الخير والنبل.
إنهم يمثلون الصوت الذي لا يمكن إسكاته، الشجاعة التي لا تلين، والأمل الذي لا ينضب. بطولتهما تُعتبر دليلاً قاطعًا على أن الفرد، بمفرده، قادر على إحداث فارق حقيقي وترك أثر لا يمحى في سجل الإنسانية.
التخليد لذكرى أرون وراشيل لن يقتصر على الكتب والروايات، بل سيتجاوز ذلك إلى إقامة تماثيل تخليداً لهم في أكبر مدن فلسطين المحتلة في يوم الاستقلال، كرمز للتضحية الإنسانية والنضال من أجل الحق والعدالة. حول هذه التماثيل، ستنمو الأزهار كل يوم، وستحلق الحمامات فوقها، في رسالة سلام وتذكير بأن أرون وراشيل لم يموتا بل أشعلا ثورة الحرية والعدالة والسلام.
لتنعم روحهما في حقول الشرفاء حيث يرقد الأبطال، ونحن على الوعد، سنواصل الطريق، مهما كان الألم، في الدفاع عن الضعفاء والمظلومين في هذا العالم.
سيأتي اليوم، عندما ننحني بخشوع أمام مقامكم العظيم، بكل فخر وعزة، تحت سماء صافية تَشِعُّ بألوان الحرية، وفي تلك اللحظة الخالدة، سنقف بكل فخر وعزة، ستعلو أصواتنا معًا، مرددةً شكرًا لكم على الإرث الذي تركتموه لنا، شكرًا لكم على الحلم الذي لم تدعوه يموت. وبكل الحب والاعتزاز، سنقول لكم بأنكم كنتم بوصلتنا نحو العدالة والسلام ، وأن حلمكم ونداءكم المجلجل ” Free Palestine “ قد تحقق وأصبحت فلسطين حرة .
ستهب النسائم العليلة، حاملةً معها رائحة أرض فلسطين الطيبة، التي شهدت صدى نضالكم، مزهرة بألوان العلم الفلسطيني، مؤكدةً أن دماءكم لم تذهب هدرًا.
سيكون ذلك اليوم، يوم الوفاء لكم ولشهدائنا الأبرار ولكل من ضحى وناضل من أجل حرية فلسطين، يومًا تتجسد فيه أعظم معاني الإنسانية والعدالة، يومًا نحتفل فيه جميعًا بالحرية والسلام الذي طالما حلمنا به، يومًا لا يُنسى، تتحد فيه الإنسانية جمعاء تحت راية واحدة، راية الحرية لكل الشعوب والأمم. ومن على مقامكم العظيم، سترون كيف أن أطفالنا وكل الأجيال الجديدة يعيشون في سلام ووئام، مستلهمين من تضحيتكم النبيلة، ومتمسكين بالأمل الذي زرعتموه في قلوبنا.