الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر
في خطابه أمام قيادة وزارة الخارجية الروسية يوم أمس أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن اقتراح سلام حقيقي لكييف والغرب، يضمن “طي صفحة المأساة الأوكرانية” للأبد.
تضمن الاقتراح خطوات عملية واضحة من شأنها أن تنزع فتيل الأزمة المستمرة والمستفحلة لأكثر من عشرة أعوام، والتي شملت في العامين الأخيرين بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا بعدما استنفدت روسيا جميع الحلول الدبلوماسية والسياسية، واستنفد الغرب كل حلوله العسكرية بيد أوكرانيا، وباتت هزيمة أوكرانيا والغرب واضحة وجلية للغرب قبل روسيا.
شملت خطوات بوتين التي أعلنها يوم أمس سحب القوات الأوكرانية من كامل الأراضي المنضمة إلى روسيا حديثا في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين ومقاطعتا خيرسون وزابولوجيه، وفقا للحدود الإدارية لتلك المناطق. وكذلك تخلي كييف عن نيتها الانضمام إلى حلف “الناتو” لما يمثله ذلك من خطر وجودي وخط أحمر للدولة الروسية. ووعد بوتين بالوقف الفوري لإطلاق النار وسحب القوات الروسية مباشرة بمجرد إعلان كييف عن ذلك.
كذلك أشار بوتين إلى انتهاء ولاية زيلينسكي وفقا للدستور الأوكراني، الذي بالفعل قد أقدم على منع الانتخابات في ظل الأحكام العرفية، إلا أنه نص على انتقال السلطة إلى البرلمان، لا تجديد ولاية الرئيس المنتهية ولايته. بمعنى أن السلطة الشرعية الحقيقية في أوكرانيا الآن، وفقا للدستور الأوكراني، يجب أن تكون في يد البرلمان لا في يد الرئيس. لذلك أعرب بوتين عن اندهاشه مما يتم توقيعه من معاهدات واتفاقيات من جانب زيلينسكي، بوصفه “الرئيس الشرعي”، بينما هو لم يعد كذلك منذ 21 مايو الماضي.
على الجانب الآخر، فيما قد يبدو ردا فورياً على اقتراح بوتين، تمخض الجبل فولد فأراً في منطقة بوليا بجنوب إيطاليا، حيث تجري وقائع اجتماع الدول السبع G7 الذي افتتحته رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني. وشملت مسودة البيان الختامي للقمة قرارا أسماه المستشار الألماني أولاف شولتس بـ “التاريخي”، حيث تعهد قادة المجموعة بتوفير الدعم لأوكرانيا “طالما لزم الأمر”، واتفقوا على قرض جديد لكييف بقيمة 50 مليار يورو باستخدام فوائد الأصول الروسية المجمدة، في سابقة سرقة علنية لا مثيل لها، ستقوض أسس النظام المالي الغربي والثقة فيه.
كذلك تضامن القادة مع “صيغة زيلينسكي للسلام” الخيالية، التي لا ترتبط بأي واقع على الأرض، وتنطلق من رغبات أوكرانية فارغة لا تستند إلى أي حقائق أو مسوغات، ورحبت القمة مع ما يسمى “قمة السلام” المنعقدة في سويسرا اليوم وغداً مما يطلق عليه منظموها “وضع إطار للسلام مبني على القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ومبادئه ومع الاحترام لسيادة وسلامة أراضي أوكرانيا”!
لم تلق الدعوات الصادقة للرئيس الروسي أذناً صاغية في أوروبا، واستمعوا إلى المهرج وهلوساته بشأن “حدود عام 1991”. أراد بوتين أن يضمن لأوروبا الخروج بما تبقى من ماء الوجه، مع الوضع في الاعتبار نتائج العمليات العسكرية خلال سنتين، لا سيما الوضع الراهن، الذي خسرت فيه أوكرانيا في الأسبوع الماضي وحده أكثر من 12 ألف عسكري بين قتيل وجريح، وتقف الآن القوات المسلحة الروسية على أعتاب مدينة خاركوف ثاني كبريات المدن الأوكرانية، فيما أكد الرئيس الروسي في تصريحاته أن الوضع “لا يتطور لصالح أوكرانيا”، وهو ما يؤكده المحللون والخبراء العسكريون الغربيون.
كذلك يؤكد الجميع أن “إف-16″، والسماح لأوكرانيا بضرب الأراضي الروسية لن يغير من مجريات الأمور في ساحة المعركة، وأوهام “هزيمة روسيا استراتيجياً في ساحة المعركة” أصبحت أبعد من أي وقت مضى، وتبين لجميع الأطراف فشل وهزالة ويأس هذه الأهداف، ليس فقط عسكرياً، ولكن وقبل ذلك اقتصادياً.
لقد تجاهل الزعماء السبعة في قمتهم ليس فقط حقائق التاريخ والجغرافيا فحسب، وإنما كذلك حقائق ما يجري داخل أوروبا من تيارات لم تعد ترغب لا في الحرب ولا في دعمها بالسلاح والأموال، وأصبحت تلمح الخطر الذي يلوح في الأفق، بعد الأزمات الاقتصادية التي لحقت بكبرى الدول وقلاعها الصناعية.
روسيا عرضت موقفها بكل صراحة ودقة وتفاصيل، وعرض الرئيس بوتين يوم أمس تاريخ الأحداث في أوكرانيا الذي كرره من قبل، فأعاده لعله يجد أذناً صاغية رشيدة، إلا أن أوروبا لا تستمع سوى إلى السيد في واشنطن، وتنفذ تعليماته حتى ولو على حساب مواطنيها ومصالحها.
لقد استعادت روسيا جزءا كبيراً من الأراضي التي تعود تاريخياً لها في أوكرانيا، وضمنت عودة مواطنيها الروس، من حاملي اللغة والثقافة والديانة الأرثوذكسية، إلى أحضانها، وتركت ما تبقى من أوكرانيا في مهب الريح، ينعمون بنازيتهم واضطهادهم للغة والثقافة الروسية والكنيسة الأرثوذكسية، ويهرولون ناحية الغرب بـ “قيمه ومبادئه وقوانينه وقواعده” التي تستحل السرقة وتغيير الجنس، وتروّج للمثلية بقوافل “الفخر”، ولا يأبهون لمقتل 40 ألف فلسطيني برصاص الاحتلال الإسرائيلي الغاشم.
هذا هو واقع مجموعة الدول السبع، التي لا زالت تحلم بالحفاظ على الهيمنة الغربية والعالم أحادي القطب، في وقت أعربت فيه عشرات الدول عن رغبتها الانضمام إلى مجموعة “بريكس”، التي تترأسها روسيا هذا العام. وفي ظل تحولات جذرية يمر بها العالم.
لا يبدو أن أحداً يفهم ما قاله الرئيس بوتين، في الوقت الذي أصبح واضحاً لبقية العالم أنه الزعيم الوحيد بين أقزام الدول الصناعية السبع الذي يفهم ما يقول، ويقول ما يعني، وينفذ ما يعني وما يقول بكل دقة وصرامة وإخلاص لوطنه ولشعبه .