ربّما من أعجب العجائب، بل وأندرها، أن يشاهد العالم مهرجاً يكرر ذات العرض والاستعراض اللاواقعي الممجوج ولمدّة 56 دقيقة يخاطب فيه نفسه، ويتحوّل فيه الحاضرون إلى مجرّد “كومبارس” يؤدي دور “التصفيق” وقوفاً 45 مرّة، كيف لا، وهم يقبضون ثمن تأدية هذا الدور من “اللوبي” الذي يقوم بدور المنتج والمخرج في آن معاً. وهذا بالطبع لا يحدث سوى في بلد العجائب والغرائب، بلد “العم سام”، الذي يدّعي قيادة العالم، طوعاً أو كرهاً، ويقوده “لوبي صهيوني” يتحكّم في كافة مفاصل الدولة، بل ويصنع قادته ورأيه العام، من خلال إمبراطوريّاته المالية والإعلامية والأكاديمية وحتى القانونية والثقافية والسينمائية..؟!
لكن هذا العرض الاستعراضي الرابع لذات المهرّج أمام الكونغرس، يحتاج إلى قراءات متعدّدة وتحليلات متنوّعة، بما فيها تحليل علم النفس لهذه الشخصية الفريدة والمتفرّدة، والتي تُحاضر في كلّ شيء حتى في “العِفّة”، وتجترّ كل الافتراءات والأكاذيب التي خطرت ولم تخطر على عقل بشري، حتى تلك الفبركات التي تخلى واعتذر عنها مُفبركوها، والمرتبطة بما جرى يوم السابع من تشرين أول/أكتوبر من العام الماضي 2023. وقد بدا هذا النازي البولندي “بنيامين ميليكوفسكي” وكأنه محامٍ رديء عما يُدعى “الساميّة” التي لا ينتمي لها، فهو “يافثي” الأصل ـ نسبة إلى يافث بن نوح جدّ الأوروبيين بحسب تصنيفات الخرافات التوراتية المزعومة ـ وظهر كأستاذ مُتطوطس في حضانة أطفال يتأستذ على مَن حضر من أعضاء الكونغرس المُتصهَين.
اللافت للانتباه كان في إعداد مسرح العرض الاستعراضي، الذي كانت مقاعده ممتلئة في ظلّ غياب 112 نائباً ديمقراطيّاً بمَن فيهم نائبة الرئيس كامالا هاريس من أصل 212 و 24 عضواً بمجلس الشيوخ من أصل 51 أي قرابة النصف.. وحتى ممَّن حضروا، أظهرت الكاميرات أثناء الخطاب ـ ربّما عن غير قصد ـ النائب اليهودي “جيري نادلر” منشغلاً بقراءة كتاب ضدّ “النتن”، وكذلك النائب من أصول فلسطينية رشيدة طليب التي حضرت خصّيصاً لترفع يافطة “مجرم حرب”.. وبهذا ظهر الكونغرس وكأنه قطعة من خارج الكرة الأرضية، وبدا بطله الاستعراضي مجرّد كائن فضائي منفصل تماماً عن الواقع. كيف لا، وهو الذي خرج من مطار اللد الفلسطيني متسلّلاً وسط جموع المتظاهرين الذين احتشدوا فيه وحاصروا حتى منزله واصطفوا على خط مساره، مطالبينه بالرحيل لفشله الذريع في أداء مهامه وتحمّل مسؤولياته. وكذلك استقبله عشرات الآلاف ويزيد ممّن حاصروا مبنى الكونغرس وحتى فندق إقامته، يطالبون باعتقاله ويحرقون دُميته والأعلام الإسرائيلية ويرفعون أعلام فلسطين عالية خفّاقة، يتقدّمهم آلاف اليهود المعادين للصهيونية والكيان الإسرائيلي الذي لا يُمثّلهم ويصرّ على ارتكاب جرائمه ومجازره باسمهم..؟!
ولأنه يعتقد في قرارة نفسه أنّ هذه هي فرصته الأخيرة، التي لن تتكرر بهكذا كرنفال احتفالي مُسبق التصنيع، وهو الذي عاني كثيراً على مدار ما يقرب العشرة شهور من الشتيمة والاستهزاء في الكنيست الإسرائيلي.. فقد أعدّ خطاباً هتلريّاً في أوج انتصارات النازية وصعودها الصاروخيّ، ورمى كلّ ما في جعبته من سهام سامّة، واستخدم ما استطاع استخدامه من أوراق صفراء جلبها معه، من أهمها: الفتاة التي كانت تحظى بأحسن المعاملة وكرم الضيافة لدى إحدى عائلات مخيّم النصيرات الذي استُبيح دماء أفرادها مع مئات من أبناء المخيّم الأبرياء في مجزرة إسرائيلية أمريكية وغربية مشتركة يندى لها جبين البشرية جمعاء، وأحد ضبّاط المظليّين القتلة المجرمين للشهادة على “الجيش المُقدّس الأكثر أخلاقيّة في العالم”، وعميل عربي مرتزق يتباهى بقتل مئات “المخرّبين” ـ طفلاً كان أم إمراة أم شيخاً مُسنّاً ـ للدلالة على مشاركة “الأصدقاء العرب” في جرائم الإبادة القذرة..؟!
أمّا أبرز رسائله الملغومة التي نثرها على امتداد مساحة الكرة الأرضية، فتمثّلت في تذكير دول الاستعمار الغربي وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية بأن “إسرائيل” لا تزال تقوم بوظيفتها القتالية الموكلة لها، وتدافع عن “الخير” و “التحضّر” في مواجهة “الشر” و “الهمجيّة”، وأن “انتصار غزة هو نهاية أمريكا”، و “إذا سقطت إسرائيل فالدولة التالية أمريكا”، وأن بُطء تدفّق السلاح الأمريكي والغربي سبَّبَ تأخير الانتصار، داعياً بمنتهى الوقاحة إلى قمع وإسكات أيّة أصوات ” معادية للساميّة” تعارض أو تنتقد سلوك “الجيش المقدّس الإنساني جداً” حتى من اليهود “الخونة” أنفسهم.. وبذلك يكون قد أقحم كيانه في اللعبة الانتخابية الداخلية باعتبار “إسرائيل” شأن داخلي وأمن قومي أمريكي، محمّلاً إدارة بايدن مسؤولية البطء في الانتصار الموهوم، ومقدّماً أوراق الاعتماد للجمهوريين الذي وجّهوا له الدعوة لكونه إحدى مفردات حملتهم الانتخابية..؟!
أما محور “الشرّ” و “الهمجية” فحصره “النتن” في الجبهات السبعة الرافضة والمقاومة للغطرسة الإسرائيلية الغربية الاستعمارية ـ غزة ،الضفة ومعها القدس، لبنان، اليمن، سوريا، العراق، وكبيرهم إيران ـ داعياً الغرب الخَيِّر والمُتحضِّر ومعهم من مطايا العرب الآملين في نيل شرف الخيريّة والتحضّر أمل “إبليس” في الجنّة، إلى الاصطفاف خلف الكيان المجرم وتشكيل أوسع تحالف هجومي للدفاع عنه. وربّما عمد إلى تأجيل الدعوة إلى قمّة عربية طارئة في تل أبيب للمصادقة على ذلك..؟!
والسؤال الذي يطرح نفسه، من أين استمد هذا القزم عَمْلَقته وقوة وقاحته اللامحدودة، وهو يمثّل آخر وأبشع احتلال باطل على وجه الأرض. مقابل استجداء مثير للشفقة والغثيان ممَّن يُمثّل الحقّ الثابت والمشروع للشعب الفلسطيني طالباً بتوسِّل “الحماية”، وممَّن من القاضي والجلّاد ذاته..؟!
وهنا تحضر كلمة أبرز المقاطعين، عضو مجلس الشيوخ التاريخي من أصول يهودية “بيرني ساندرز” ألقاها قبل يوم واحد من الكرنفال المصنّع إيّاه، جاء فيها “إنها لحظة فريدة في تاريخ الكونغرس طوال سنوات عديدة من عمر بلدنا، استقبل عشرات القادة من جميع الخلفيّات والمعتقدات السياسية، تمّت دعوتهم لإلقاء كلمة أمام جلسة مشتركة للكونغرس، ومع ذلك حسب علمي سيكون الغد فريداً من نوعه في جلب رئيس الوزراء نتنياهو لإلقاء كلمة أمام اجتماع مشترك للكونغرس، وستكون هذه هي المرّة الأولى في التاريخ الأمريكي الذي نمنح فيه مجرم حرب هذا الشرف. بصراحة هذه الدعوة لنتنياهو وصمة عار وشيء سوف ننظر إليه بندم”. ولنا في هذه الكلمة عبرة لمَن يريد أن يعتبر قبل فوات الأوان. فهل من مُعتَبِر؟!