د. محمد علي صنوبري
إن زيارة الأربعين، الحدث الذي يجتذب الملايين إلى العراق سنويًا، ليست مجرد مراسم دينية؛ بل إنها شهادة عميقة على المرونة والصمود والفخر التي ميزت النضال الإسلامي من أجل العدالة عبر التاريخ. إن الأربعين هي لحظة فارقة في الأهمية الدينية العميقة. ومع ذلك، فهو أيضًا بمثابة مصدر إلهام قوي للحركات المعاصرة التي تواصل الكفاح ضد الظلم والقمع في العالم الحديث.
إن المراسم التي تقام خلال الأربعين تتردد صداها خارج حدود العراق، وتردد صداها في قلوب وعقول المسلمين في جميع أنحاء العالم. في كل عام، عندما يتجمع ملايين الحجاج من مختلف الطوائف والأعراق والجنسيات في كربلاء، فإنهم لا يشاركون فقط في طقوس دينية، بل إنهم يؤكدون التزامهم بقيم المقاومة والكرامة التي جسدها الإمام الحسين. إن هذا التجمع السنوي هو بمثابة رمز قوي للوحدة بين المسلمين الذين يواجهون أشكالاً مختلفة من القمع اليوم.
لقد أصبحت روح الأربعين هذه، المتجذرة في المقاومة التاريخية ضد الطغيان، مصدر إلهام لمحور المقاومة. إن قرار الأمين العام لحزب الله بتسمية عملية عسكرية كبرى باسم الأربعين يؤكد التأثير العميق الذي يخلفه هذا الحدث الديني الهام على جهود المقاومة المعاصرة. إنه استحضار متعمد واستراتيجي للرمزية الدينية لتحفيز الهوية الجماعية والغرض الذي يتجاوز الحدود والطوائف والانتماءات السياسية وكل ذلك لقضية مركزية وواحدة هي فلسطين المحتلة.
وبهذه الطريقة، تطورت الأربعين من حدث ديني بحت إلى بيان سياسي قوي. إنها ترمز إلى العزم الراسخ على الوقوف ضد الطغيان، بغض النظر عن مدى قوة الخصم. إن محور المقاومة، من خلال ربط عملياته بمثل هذه الأحداث الدينية والتاريخية المهمة، لا يعزز أساس الالتفاف حول القضية الفلسطينية فحسب، بل ويبث أيضاً رسالة الوحدة والعزم إلى العالم. وهذه الرسالة واضحة هي إن النضال ضد الكيان المحتل ليس مجرد صراع سياسي، بل هو استمرار لمعركة تاريخية وأخلاقية لها جذورها في الأسس ذاتها للعقيدة الإسلامية.
إن وصول ملايين الحجاج إلى العراق لحضور الأربعين، قادمين من خلفيات متنوعة، هو مظهر من مظاهر هذه الوحدة. وهو يثبت أنه على الرغم الانقسامات الطفيفة التي قد توجد داخل العالم الإسلامي، هناك اعتراف مشترك بقضية عادلة تتجاوز هذه الاختلافات. إن وجود أشخاص من جميع مناحي الحياة، أعراق ولغات وثقافات مختلفة، متحدين في إخلاصهم والتزامهم بالمبادئ الإسلامية، يرسل رسالة قوية إلى العالم: العدالة والمقاومة قيم عالمية لا يمكن حصرها بالحدود أو الطوائف.
وعلى الصعيد السياسي، فإن هذه الوحدة والعزم يزعزعان استقرار الكيان الصهيوني وقيادته بشكل عميق. إن تصريحات رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو الأخيرة، والتي تم التقاطها في تسجيلات مسربة خلال اجتماع متوتر مع عائلات الأسرى الإسرائيليين الذين تحتجزهم قوات المقاومة الفلسطينية، تكشف عن القلق العميق داخل حكومة الاحتلال. إن اعتراف نتنياهو بأن الكيان الصهيوني يواجه تهديداً وجودياً، ليس فقط من الصراعات المباشرة ولكن من المقاومة الأوسع نطاقاً والمنسقة، يؤكد فعالية استراتيجية محور المقاومة.
إن خوف نتنياهو من أن “وجود الكيان برمته، ووجود المستوطنات في الجنوب والوسط والشمال في خطر” هو اعتراف مباشر بالتأثير المتزايد لمحور المقاومة. إن إشارته إلى إيران وحزب الله يحاصران الاحتلال، يسلط الضوء على العمق الاستراتيجي لهذه التحركات المنسقة، التي لا تستلهم فقط من الحسابات السياسية المعاصرة ولكن أيضاً من الشعور العميق بالواجب التاريخي والديني. إن المقاومة لا تتعلق بالقوة العسكرية فحسب؛ بل تتعلق بتجسيد روح الأربعين والصمود في مواجهة الصعاب الساحقة.
إن هذا خوف للكيان الإسرائيلي ليس بلا أساس. إن محور المقاومة، يعمل على توسيع نطاق المقاومة إلى ما هو أبعد من الحدود المباشرة لغزة، وخلق بيئة في شمال إسرائيل تعكس التحديات التي يواجهها أهل غزة. ومن خلال تعطيل الحياة الطبيعية، إغلاق المدارس، وخلق حالة دائمة من التأهب، وتحدي الشعور بالأمن الذي يشكل أهمية حيوية لاستقرار إسرائيل، تهدف المقاومة إلى ممارسة ضغوط مستمرة على الكيان الإسرائيلي لوقف عدوانه على غزة. وهذه الاستراتيجية ليست مجرد تكتيك عسكري؛ بل هي حملة نفسية مصممة لتآكل ثقة ومعنويات السكان وقيادة الاحتلال.
وفي العودة إلى الحدث الديني علينا القول، إن تجمع الملايين من الزوار من خلفيات ودول متنوعة هو أعجوبة لوجستية وإنسانية. إن قدرة الشعب العراقي على استضافة مثل هذا العدد الهائل من الزوار بالدفء والرعاية هي شهادة على قيمهم الراسخة في الضيافة والأخوة. في وقت ينقسم فيه العالم غالبًا على أسس عرقية ودينية وسياسية، أظهر العراقيون أن التزامهم بخدمة الإنسانية يتجاوز هذه الانقسامات. إن هذا الكرم الرائع لم يمس قلوب الزوار فحسب، بل استحوذ أيضاً على انتباه العالم، وحول صورة العراق من أمة مزقتها الحرب إلى واحدة من أكثر البلدان ترحيباً وكرماً على وجه الأرض.
إن نجاح حج الأربعين ليس مجرد انتصار ثقافي أو ديني؛ بل إنه أيضاً بيان سياسي. إن التعاون السلس بين الحكومة العراقية وشعبها في ضمان سلامة وأمن وراحة ملايين الزوار يعكس قوة واستقرار المؤسسات السياسية العراقية. كما يوضح قدرة الحكومة على إدارة الأحداث واسعة النطاق ويسلط الضوء على إمكانات الأمة للنمو والتنمية في مجالات أخرى. ومن خلال تسهيل المراسم الدينية، أثبتت الحكومة العراقية قدرتها على الحفاظ على النظام وتوفير احتياجات شعبها وزوارها على حد سواء، مما يشير إلى العالم بأن العراق ليس فقط أمة ذات تراث روحي عميق، بل وأيضاً أمة ذات نضج سياسي وكفاءة ناشئة.
وعلاوة على ذلك، فإن الدعم والتشجيع من إيران المجاورة لعراق قوي ومتطور يؤكد على الأهمية الإقليمية لاستقرار العراق. إن مصلحة إيران في العراق المزدهر ليست مجرد مصلحة إيثارية، بل إنها استراتيجية أيضاً. فالعراق المستقر والمزدهر يساهم في الأمن الشامل والنمو الاقتصادي في المنطقة، ويعزز الشعور بالتعاون والمنفعة المتبادلة. وتدرك إيران أن العراق القوي يمكن أن يلعب دوراً محورياً في موازنة ديناميكيات القوة في الشرق الأوسط، والعمل كجسر بين المجموعات الثقافية والدينية المتنوعة، وتعزيز السلام والاستقرار في منطقة مضطربة تاريخياً.
وفي الختام، فإن مراسم الأربعين هي أكثر من مجرد احتفال ديني؛ إنها رمز قوي للمقاومة والوحدة والصمود الذي لا يزال يلهم ويشكل المشهد السياسي في الشرق الأوسط. ومن خلال الاستفادة من هذا التقليد الغني، نجح محور المقاومة في صياغة سرد يتجاوز الصراعات المباشرة ويستفيد من البئر العميق للتاريخ والمعتقد الإسلامي. إن هذه الرواية لا تتحدى الكيان الصهيوني في ساحة المعركة فحسب، بل إنها تتحدى أيضاً الأفكار والهوية، مما يجعل النضال يدور حول الحفاظ على الكرامة والعدالة بقدر ما يدور حول المكاسب الإقليمية أو السياسية. إن روح الأربعين، بما تحمله من دروس التضحية والشجاعة والالتزام الثابت بالعدالة، سوف تستمر في توجيه وإلهام المقاومة لسنوات قادمة وحتى تحرير فلسطين المحتلة.