منذ نهاية القرن الـ19، أصبحت باريس عاصمة العالم للتجسس، وتؤوي ما بين 10 آلاف و15 ألف عميل سري، معظمهم من أميركا والصين وروسيا وإسرائيل وتركيا، بحسب الفيلم الوثائقي “أسرار الجواسيس” للمخرجين نيكولا بورغوين وأماندين ستيليا.
تصدّر يوم أمس الاثنين 26 أغسطس 2024 اسم الباحثة المصرية ريم خالد والتي كانت تعمل في معهد البيولوجيا التكاملية للخلية بجامعة سَكلاي في باريس، وذلك بعد حادثة وفاتها الغامضة أمام باب شقتها، حتى أنه لم يتم الكشف حتى الآن على ملابسات هذا الحادث. إلا أن البصمة الوحيدة الموجودة أمامنا هي بصمة الموساد، علما أن الشهيدة ريم حامد سبق وأن نشرت على صفحتها على الفايسبوك منشورات أوضحت فيها المضايقات التي تتعرض لها وأنها تعرضت لمحاولة اغتيال من قبل شريكتها في السكن بالإضافة لتعرض أجهزتها وهواتفها لاختراق منظم، ومن المؤكد أيضا أنها أبلغت السلطات الفرنسية والسفارة المصرية في باريس بأنها تتعرض لتهديدات ومضايقات بشكل مستمر وأنها تشاهد وتلاحظ أشخاص يتجسسون عليها، ولكنها لم تفصح عنهم ولا عن أسمائهم! وهؤلاء الأشخاص يضعون ريم حامد تحت المجهر أي أنها تتعرض لحالة تجسس متكاملة الأركان أي في المنزل والعمل والشارع!؟
فمن البديهي وأبسط المعلوم عندما يذهب عالم في مجال البايو التكنولوجي وعلم الجينات أو طالب علم بهذا التخصص الحساس وهو في دولة أجنبية إلى سفارته إن لم نقل إلى سلطات البلد الذي يقيم فيه ويقدم هكذا معلومات حتى وإن لم تأتِ بصيغة شكوى، فإن أول ما سيسألها ضابط المخابرات في محطة السفارة هل تعرفينهم، هل سبق وأن رأيتهم، متى آخر مرة كانوا بقربك، في أي شارع وقرب أي مقهى وأي مبنى؟ وهذا السؤال بديهي كي تأخذ المحطة على عاتقها واجب المسؤولية وتفاتح السلطات الأمنية في باريس ليتم الاستدلال عن هؤلاء الأشخاص بالرجوع إلى كاميرات الشارع أو المقهى أو المبنى الذي تذكره المغدورة؟!.
لكن يبدو أن ساحة باريس عادت مجدداً لتكون حديقة خلفية لعمليات الموساد خصوصا بعد عام 2003، لا سيما بعد غياب أقوى محطة مخابرات عربية في باريس وهي محطة المخابرات العراقية. وهنا كون الساحة هي ذات الساحة والجنسية المصرية تجمع شهيدين مغدورين نسرد لكم بشكل موجز حادثة اغتيال الشهيد يحيى المشد.
من هو يحيى المشد
هو عالم مصري متخصص في هندسة المفاعلات النووية، كان واحدا من الكوادر العلمية التي استثمر علمها في البرنامج النووي المصري قبل أن يلتحق في أواخر سبعينيات القرن العشرين بالمشروع النووي العراقي. في العام 1980 نفذ الموساد عملية اغتيال بحق العالم المصري الشهيد يحيى المشد في فندق لو ميريديان وسط العاصمة الفرنسية باريس.
وكان ضابط الموساد المشرف على العملية حينها هي الضابط تسيبي ليفني، بعدها عمل جهاز المخابرات العراقية على التخطيط لعملية مقابلة تهدف لضرب محطة الموساد في باريس أولاً ولأخذ الثأر ثانياً.
تم الترتيب على إقامة دعوة عشاء من قبل أشخاص معينين في أحد مطاعم باريس تحضرها تسيبي ليفني التي كانت أساسا متواجدة في باريس طيلة تلك الفترة وكان كل شيء يجري على ما يرام، لكن قبل أن يأتي موعد العشاء اعتذرت تسيبي ليفني وقالت أن والدتها سارة روزنبيرغ، أصابتها نوبة مرضية في تل أبيب وعليها العودة وأنها ستعود حالاً إلى بلدها، وكان هذا حقيقيا.
وكان جهاز المخابرات العراقي يهدف من هذه الدعوة إلى خطف تسيبي ليفلي واقتيادها إلى العراق، وإن تعذر الاقتياد أن يقوم بتصفيتها في باريس، إلا أن مرض والدتها هو ما حال دون ذلك، لكن لم يقف جهاز المخابرات عند هذا القدر لا سيما أن هذا الجهاز العريق كان يصفه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين “بأن ضباط مخابراتنا هم قادرين أن يجعلوا للقدر قدرا”، بل قام بعدد من عمليات أخذ الثأر وفي ساحات مختلفة بنجاح منقطع النظير.
رحم الله الشهيد يحيى المشد والشهيدة ريم حامد وتحية عز وإجلال وإكبار لكبار ضباط جهاز المخابرات الوطني العراقي (قبل الغزو عام 2003) وأمدهم الله بالصحة والعافية، وإنّا للثأر آخذون.
لكن تحقيقات الشرطة الفرنسية لم تخلص إلى شيء، وقيدت القضية ضد مجهول؟!
مشرفة.. آينشتاين العرب
ولد علي مصطفى مشرفة في 11 يوليو/تموز 1898 في حي المظلوم مصطفى بمدينة دمياط الساحلية (شمال شرق مصر)، ونشأ على حفظ القرآن الكريم منذ الصغر، وكان حريصا على المحافظة على صلاته طوال حياته مقيما لشعائر دينه كما علمه والده. تلقى علي دروسه الأولى على يد والده، وأهله تفوقه -ولا سيما في المواد العلمية- للالتحاق بأي مدرسة عليا يختارها مثل الطب أو الهندسة، لكنه فضل الانتساب إلى دار المعلمين العليا، حيث تخرج فيها بعد ثلاث سنوات بالمرتبة الأولى، فاختارته وزارة المعارف العمومية لبعثة علمية إلى بريطانيا على نفقتها. لفتت نتيجته نظر أساتذته الذين اقترحوا على وزارة المعارف المصرية أن يتابع مشرفة دراسته العلوم في جامعة لندن، فاستجيب لطلبهم، والتحق عام 1920 بالكلية الملكية، وحصل فيها عام 1923 على الدكتوراه في فلسفة العلوم بإشراف العالم الفيزيائي الشهير تشارلز توماس ويلسون الحاصل على جائزة نوبل للفيزياء عام 1927.حصل مشرفة عام 1924 على الدكتوراه في العلوم من جامعة لندن، وهي أعلى درجة علمية في العالم، حيث لم يتمكن من الحصول عليها سوى 11 عالما في ذلك الوقت، وكان أول مصري يحصل على هذه الدرجة العلمية.عمل مشرفة في مصر، وحين تم افتتاح جامعة القاهرة عام 1925 عُيّن فيها أستاذا مشاركا في الرياضيات التطبيقية بكلية العلوم، ثم انتخب عميدا لكلية العلوم عام 1936 فأصبح بذلك أول عميد مصري لها، وتتلمذ على يده مجموعة من أشهر علماء مصر، ومن بينهم عالمة الذرة سميرة موسى. بدأت أبحاث مشرفة تأخذ مكانها في الدوريات العلمية وعمره لم يتجاوز 25 عاما، وفي عام 1923 قدم سبعة أبحاث حول تطبيق فروض وقواعد ميكانيكا الكم على تأثير زيمان وتأثير شتارك، ومن خلال تلك الأبحاث حصل على درجة دكتوراه العلوم. ألف عدة كتب في الميكانيكا العلمية والنظرية والهندسة الوصفية والمستوية والفراغية، والذرة والقنابل الذرية. وكان من القلة التي عرفت سر تفتت الذرة، وحارب استخدامها في الحروب، مثلما رفض تطوير أبحاث صنع القنبلة الهيدروجينية بعدما ألمّ بتقنيات استخدام الهيدروجين في تصنيع قنبلة مدمرة. توفي علي مصطفى مشرفة في 15 يناير/كانون الأول 1950 إثر أزمة قلبية، وهناك شك في كيفية وفاته؛ إذ يعتقد أنه مات مسموما، ويعتقد أنها إحدى عمليات جهاز الموساد الإسرائيلي؟!
بدأت أبحاث مشرفة تأخذ مكانها في الدوريات العلمية وعمره لم يتجاوز 25 عاما، وفي عام 1923 قدم سبعة أبحاث حول تطبيق فروض وقواعد ميكانيكا الكم على تأثير زيمان وتأثير شتارك، ومن خلال تلك الأبحاث حصل على درجة دكتوراه العلوم. ألف عدة كتب في الميكانيكا العلمية والنظرية والهندسة الوصفية والمستوية والفراغية، والذرة والقنابل الذرية. وكان من القلة التي عرفت سر تفتت الذرة، وحارب استخدامها في الحروب، مثلما رفض تطوير أبحاث صنع القنبلة الهيدروجينية بعدما ألمّ بتقنيات استخدام الهيدروجين في تصنيع قنبلة مدمرة. توفي علي مصطفى مشرفة في 15 يناير/كانون الأول 1950 إثر أزمة قلبية، وهناك شك في كيفية وفاته؛ إذ يعتقد أنه مات مسموما، ويعتقد أنها إحدى عمليات جهاز الموساد الإسرائيلي؟!
جمال حمدان
عالم مصري ولد يوم 4 فبراير/شباط 1928. تميز حمدان بقدرته الكبيرة على فهم الأبعاد الإستراتيجية للقضايا الكبرى، ووظف تخصصه في الجغرافيا في فهم حركية التاريخ وتطورات الأحداث العالمية، وسبق له أن تنبأ عام 1968 بانهيار الاتحاد السوفياتي بعد دراسات وافية.لكن عمل جمال حمدان الأبرز تمثل في اهتمامه بإسرائيل وتفكيك بنيتها الفكرية والأصول التي بنت عليها مشروعها، ونجح في هدم مقولاتها من وجهة نظر أنثروبولوجية. كما تنبأ حمدان بانهيار الولايات المتحدة الأميركية، وقال إنها تصارع لتبقى في القمة، وتستغل في سبيل ذلك قوتها العسكرية. عثر يوم 17 أبريل/نيسان 1993 على جثة حمدان ملقاة في بيته ونصفها الأسفل محترق، وظن الجميع أن الواقعة سببها تسرب غاز، بينما أكد مقربون منه أن مؤشرات عدة تؤكد أن الحادثة وقعت بفعل فاعل. وفي 2010 ذكر الروائي المصري يوسف القعيد أن حمدان كان قبيل وفاته قد انتهى من تأليف ثلاثة كتب “اليهود والصهيونية وبنو إسرائيل”، و”العالم الإسلامي المعاصر”، والثالث عن علم الجغرافيا، وكل تلك الكتب اختفت بعد موته. كما نقل عن شقيق حمدان قوله إن الأسرة سمعت بسفر مفاجئ لطباخ جمال حمدان ثم اختفائه نهائيا، مثلما تأكد أن رجلا وامرأة من الأجانب سكنا فوق شقته لشهرين ونصف، واختفيا بعد مقتله.
سلوى حبيب
أستاذة في معهد الدراسات الأفريقية، تميزت بعطاء علمي بارز وبأبحاث مناهضة للحركة الصهيونية تكشف محاولات سيطرة إسرائيل على منابع القوة في الدول الأفريقية. في هذا السياق أنجزت سلوى بحثا قيما عن “التغلغل الصهيوني في أفريقيا”، إلى جانب نحو ثلاثين بحثا كلها تتحدث عن إسرائيل والدول الأفريقية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وكان لأبحاثها تأثير كبير.وجدت سلوى حبيب مذبوحة في شقتها، ولم تنجح الأجهزة الأمنية في العثور على القتلة الذين نفذوا العملية بشكل احترافي. ووجهت الاتهامات إلى الموساد الإسرائيلي بالوقوف خلف قتل سلوى حبيب، بسبب نجاحها في تسليط الضوء على أساليب تل أبيب في اقتحام دواليب القارة السمراء، بأساليب علمية توثيقية واضحة.
سميرة موسى.. مس كوري المصرية
أبصرت النور يوم 3 مارس/آذار 1917 بمركز زفتى بمحافظة الغربية، وأكملت تعليمها بتشجيع من والدها الذي سكن القاهرة ليفسح المجال لابنته لإتمام دراستها. التحقت بكلية العلوم، وحصلت على الباكالوريوس وكانت الأولى على دفعتها، وانتقلت إلى لندن حيث حصلت على الماجستير في موضوع التواصل الحراري للغازات. عادت سميرة موسى لاحقا إلى بريطانيا حيث درست الإشعاع النووي، وحصلت على شهادة الدكتوراه في الأشعة السينية وتأثيراتها على المواد. حرصت الولايات المتحدة على تبني موهبتها وعرضت عليها التجنيس، لكنها رفضت وعادت إلى مصر، وأنشأت هيئة الطاقة الذرية، وعملت على تنظيم لقاءات دولية حول الطاقة الذرية وكيفية تسخيرها لخدمة الإنسان. كانت سميرة موسى كثيرة الرفض للعيش بدول غربية وحمل جنسيتها والعمل في معاملها النووية، وفضلت دائما البقاء في مصر، لكنها في المقابل لم تكن ترفض دعوات السفر إلى الخارج للمشاركة في ندوات علمية، وكانت إحداها إلى الولايات المتحدة في أغسطس/آب 1952. فقد سافرت سميرة موسى إلى كاليفورنيا الأميركية لزيارة معامل نووية هناك، ويوم 15 أغسطس/آب 1952، كانت تقطع طريقا وعرا في مرتفع بكاليفورنيا، وسرعان ما فاجأتها سيارة من الاتجاه الآخر صدمتها وألقت بها في المنحدر، حيث لقيت ربها. وكالعادة في مثل هذه الحوادث، قيدت الواقعة ضد مجهول، ولم تظهر حقيقة ما جرى نهائيا؟! وفي 2015، أعلنت ريتا ديفد توماس حفيدة الفنانة المصرية الراحلة راشيل أبراهام ليفي -الشهيرة بلقبها الفني راقية إبراهيم- أن جدتها ساهمت في قتل سميرة موسى التي كانت صديقتها، وسبق أن عرضت عليها نسيان فكرة النووي المصري والحصول على الجنسية الأميركية، وحذرتها من مصير مجهول في حال رفضت، لكن سميرة كررت رفضها عرض راقية التي كانت متزوجها من يهودي أميركي، وقطعت علاقتها بها. وبحسب ريتا ديفد فإن الأسرة عرفت ذلك بعد العثور على مذكرة شخصية كانت الجدة تحتفظ بها في خزانتها القديمة؟!
ومما يسترعي الانتباه، أن معظم تواريخ تلك الاغتيالات لأولئك العلماء المصريين قد وقعت بعد إبرام اتفاقيات كامب ديفيد عام 1979، وعن سبق إصرار وترصّد، وهو ما يؤكد الطبيعة الإجرامية للكيان الصهيوني، وعدم احترامه حتى للاتفاقيات والمعاهدات التي يوقّعها بمحض إرادته كما يُفترض؟!
وهو ما يمكن ربطه بالمعلومات التي فجرها الأميركي إدوارد سنودن في عام 2013، والتي كشفت أن الهواتف الشخصية للرؤساء الفرنسيين جاك شيراك ونيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند تعرضت للتنصت على نطاق واسع من قبل وكالة الأمن القومي الأميركي “إن إس إيه؟!”
وإذا كانت باريس تعدّ رمزا لحقوق الإنسان وملاذا للاجئين السياسيين، فإنها مسرح لتصفية الحسابات الدموية أيضا بإشراف من أجهزة مخابرات أجنبية. وقد دأب الموساد الإسرائيلي على تصفية الكثير من العلماء المتخصصين في مجالات تهدد -بحسب النظرية الإسرائيلية- وجود إسرائيل، وفي مقدمتها التكنولوجيا النووية؛ وحظيت دول عربية في مقدمتها فلسطين ومصر بنصيب كبير من استهدافات الموساد.وكذلك العراق الشقيق ، حيث قام الجيش الأمريكي بتصفية عشرات العلماء والكفاءات العراقية وفق قوائم محددة زوّده بها الموساد الإسرائيلي؟! وللحديث بقية…