شهدت العلاقات الدولية في السنوات الاخيرة تطورات مهمة لم يكن بالإمكان تجاهلها من قبل المتابعين للشؤون الدولية. وقد تنوعت هذه التطورات بين أزمات شهدها العالم خلال تلك الفترة، وبين تغيرات في موازين القوى على المستوى الدولي، الأمر الذي أدى إلى ضرورة إعادة تقييم القوى الفاعلة في النظام الدولي. ولهذه التحولات أسباب كثيرة ومتشعبة في مجال العلاقات الدولية، ذلك أن الأزمات التي استفحلت في السنوات الأخيرة لم تترك مجالاً من مجالات النشاط الإنساني إلا وأثرت فيه بشكل جلي.
لقد أدت الحروب التي تلت أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 إلى اضطراب العالم، بدءا بأفغانستان ثم العراق، وصولاً إلى أحداث العالم العربي منذ مطلع العام 2011، إضافة إلى الأزمات العالمية المركبة، كالأزمة المالية العالمية، وأزمات الاقتصاد وارتفاع أسعار صرف العملات، وأزمة الغذاء العالمية، وأزمة البيئة، والارتفاع الجنوني في أسعار مواد الطاقة، وغيرها..
لقد أدت هذه الأزمات إلى تعجيل ظهور تلك التحولات في المجالين الاقتصادي والسياسي على شكل خلافات بين القوى الكبرى، أو على شكل تحالفات دولية متقابلة، تشتبك في القضايا التي تحمل أثراً على الوازنات الكبرى.
إن التحول في مفهوم القوة في القرن الجديد أدخل على المفهوم القديم أبعاداً جديدة تتخطى الفهم التقليدي له، لتطال مختلف نواحي العلاقات الدولية؛ فمسائل الاقتصاد والتكنولوجيا والمعلومات والإعلام كلها غدت من محددات القوة التي تحسب لأية دولة أو عليها.
من هذا المنطلق فقد شملت التحولات الدولية في القرن الحالي كل هذه المجالات مجتمعةً، بل أن التصورات المستقبلية لطبيعة الهيكيليات الدولية، سوف تعتمد بشكلٍ لا يقبل الشك على مدى تطور الدول في هذه المجالات كافة.
وعليه، فإن الساحة الدولية في المرحلة الحالية والمقبلة، تتجه إلى أن تكون مجالاً لصراعات من نوعٍ جديد، قد لا تجد ترجمتها دائماً بالحرب المباشرة، أو سياسة خلق المحاور العسكرية، بل إنها تتمحور بشكلٍ رئيسي حول أشكال من الضغوط السياسية والاقتصادية والإعلامية والاستخباراتية بين القوى المتقابلة للحصول على نتائج تفضي إلى ترجمة التفوق عند هذه القوة أو تلك.
إن وضع “القوّة الرئيسية” في العالم، عادةً ما يتضمّن مجموعةً من العناصر والقدرات المندمجة مع بعضها البعض، كالثروة والقدرة على التأثير في قرارات الآخرين وأفعالهم، وعلى الرغم من أن كثيرين يرون تعريف القوّة من خلال المنظار العسكري فقط، فإن القدرات العسكرية لا تشكّل إلا بعداً واحداً فقط من أبعاد القوّة، ولا يمكن اختصار محدداتها فيه، إذ يرى الخبير السياسي “كينيث فالتز” أنّ هناك خمسة معايير مختلفة لقياس وتقييم قوّة الدولة، وهي:
1- عدد السكان والامتداد الجغرافي.
2- الموارد الطبيعية التي تضّمها.
3- وضعها الاقتصادي.
4- استقرار النظام السياسي فيها.
5- قوّتها العسكريّة.
لقد استطاع الاقتصاد الصيني النمو بنسبة فاقت 10% سنوياً على مدى أكثر من عقد من الزمن، وبحلول العام 2050 من المتوقّع أن ينمو بواقع 50 ضعفاً ليتجاوز الاقتصاد الأميركي كأكبر اقتصادات العالم، على الرغم من أنّ الولايات المتّحدة ستبقى الأغنى إذا ما قيس الناتج المحليّ الإجمالي إلى عدد السكّان.
وفي ما يتعلّق بالاقتصاد الهندي، فقد نما هو الآخر بمعدّل 8% سنوياً خلال العقد الأخير، وإذا ما استمر في السياق نفسه، فإنه سيكون واحداً من أكبر ثلاثة إقتصادات في العالم بحلول منتصف القرن. كما أنه في عامي 2006 و2007 شهد 124 بلداً معدل نمو بلغ 4% أو أكثر، وتضمنت هذه البلدان ما يزيد عن 30 بلداً أفريقياً.
لقد قام انطوان فان أجتاميل، بتصنيف الشركات الخمس والعشرين المرجح أن تكون الشركات متعددة الجنسية الأكبر في العالم خلال المرحلة القادمة، وتضمنت لائحته أربع شركات من كلٍ من البرازيل والمكسيك وكوريا الجنوبية وتايوان، وثلاث شركاتٍ من الهند، واثنتين من الصين، وواحدة من كلٍ من الأرجنتين وتشيلي وماليزيا وجنوب أفريقيا.
وللدلالة فقط، فإن أغنى رجلٍ فيٍ العالم اليوم مكسيكي، وأكبر الشركات في العالم من حيث المبيعات صينية، والطائرة الأضخم في العالم تصنع في روسيا وأوكرانيا، والمصفاة الأكبر في العالم تنشأ في الهند، وأكبر المصانع في العالم توجد أيضاً في الصين، حتى الرموز والعلامات التجارية الأميركية الشهيرة أصبحت ملكاً لأجانب، والمذهل في الأمر هو أنه قبل عشر سنوات فقط، كانت الولايات المتحدة تشغل المركز الأول في كثير من هذه التصنيفات.
إن هذه الحقائق، إضافة إلى وجود روسيا والصين في موقعين محاذيين جغرافيا وسكانياً، ووقوفهما كل من جانبه بوجه هيمنة دولة واحدة على النظام الدولي، أدت كلها إلى تقارب استراتيجي بينهما. وتعزز هذا التقارب مع تشكيل مجموعة “بريكس” عام 2009، ليبدأ بإنتاج توافقات تكتيكية بخصوص القضايا السياسة المطروحة على الساحة الدولية.
ومن المتوقع أن تتعمق هذه التجربة بصورة تتيح لهذين البلدين المطالبة بقسم أكبر من النفوذ في المؤسسات الدولية، من دون أن يوحي ذلك باستعدادهما، أو باستعداد أي منهما للدخول في مواجهة مباشرة مع القوى الأخرى الموجودة على الساحة الدولية، أو تلك القوى المسيطرة كالولايات المتحدة الأميركية.
إن ما يجمع القوى الناشئة اليوم هو الآمال التي رسموها لعالمٍ جديد بعيدٍ عن الأحادية القطبية، وليس الاتفاق الإيديولوجي أو السياسي الكامل حول رؤيتهم للعالم. وهو بالتالي ما يميز هذه التجربة عن التجارب السابقة كالاتحاد السوفياتي السابق.
ومن هذا المنطلق، فإن أثر التحولات الدولية في أدوار القوى الصاعدة بات ملموساً، حيث يصبح النموذج الذي قدمته دول “بريكس” يوماً بعد آخر أكثر إغراءً لدول أخرى حول العالم، تسعى من جانبها لتحقيق التنمية والأمن، وأهم من ذلك فهي تسعى إلى الخروج من الهيمنة الأميركية على شؤونها.
وقد خلقت أحداث “الربيع العربي” فرصة لهذه الدول لتلعب دوراً يحقق تطلعاتها، ويستجيب لمصالحها في منطقة الشرق الأوسط، فكيف كان دور الصين في هذه الأحداث، خاصةً في مسار الأزمة السورية؟