في أواخر شهر يناير، وفي غضون يوم واحد فقط، تحولت كلاً من المملكة العربية السعودية واليمن نحو منعطف تاريخي جديد؛ ففي 23 يناير الجاري توفي العاهل السعودي الملك عبد الله البالغ من العمر تسعين عاماً عقب عشر سنوات قضاها في السلطة، وفي ذات الوقت في صنعاء، أعلن الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي استقالته بعد حصار الجماعة الحوثية -وهي جماعة صحوة شيعية مدعومة من إيران- للقصر الرئاسي اليمني، هذه الجماعة المتمردة التي تنامى تأثيرها على مدى الأشهر السابقة، دقت ناقوس الخطر في المشرق والمغرب بعد سيطرتها على العاصمة صنعاء في سبتمبر الماضي، ولكن بالنسبة للسعوديين فإن الأمر يشكل خطراً أكبر، كون تغيير السلطة في اليمن قد يضعف نفوذهم مرة أخرى في صنعاء، كما أنه يهدد المنطقة بخطر محدق يتمثل بنمو التهديد الإيراني.
تضييق الخناق المالي
يمكن وصم العلاقات السعودية – اليمنية بشكل عام بسمة التوتر، لأن البلدين يتقاسمان حدوداً مشتركة طويلة؛ مما أدى إلى تدخل السعودية –وهي الكفة الأقوى- بالوضع اليمني الداخلي كلما هدد المزيج اليمني المضطرب سياسياً وقبلياً وطائفياً بإحداث ركود اقتصادي دائم يلوّح برمي البلاد في دوامة لا نهائية من العنف والفوضى، وبالنسبة لليمن فإنها لطالما اعتبرت التورط السعودي في شؤونها الداخلية بأنه محاولة لمفاقمة المشاكل القائمة والحفاظ على ضعف الدولة، وفي المقابل، يقول السعوديون بأنهم –ومن خلال تدخلهم- يحاولون ضمان بقاء الأزمات داخل حدود اليمن وعدم امتدادها لحدود الدولة “الشقيقة”.
على مدى السنوات الماضية، عمدت السعودية إلى ضخ المليارات على شكل مساعدات لليمن لدعم هذا البلد؛ مما مكّن اليمن من بناء البنية التحتية، وتوفير الرعاية الاجتماعية، وحتى تمويل جيش البلاد المتهالك، ولكن هذه المساعدات توقفت تقريباً عندما تولى الحوثيون السلطة، في إشارة من السعودية على عدم رضاها بسيطرة الحوثيين على السلطة في البلاد، كما أن تعليق المساعدات يمكن أن يُنظر إليه على أنه محاولة سعودية لإجبار الجماعة المتمردة على إعادة النظر في موقفها العدواني، فضلاً عن أن إيقاف المساعدات يخدم الموقف السعودي المتمثل بحملها للواء السنة في المنطقة، وبالتالي يعتبر تعليق المساعدات دليلاً واضحاً على أن السعودية لا تدعم هذه الجماعة الشيعية في اليمن، على الرغم من أن هذا الموقف قد يتم استغلاله من قبل تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية وغيره من الجماعات السنية المتشددة لدعم موقفهم الرامي لزيادة أعداد المتطوعين في صفوفهم.
لا تعتبر هذه المرة الأولى التي تعمد فيها السعودية لاستخدام المعونات كورقة ضغط على اليمن؛ ففي عام 1990 وعندما صوّت الرئيس اليمني علي عبد الله صالح ضد قرار للأمم المتحدة يجيز استخدام القوة لطرد الرئيس العراقي صدام حسين وقواته من الكويت، فسّر السعوديون هذه الخطوة على أنها تأييد ضمني للغزو العراقي، وردّت السعودية بإلغاء امتيازات ملايين العمال اليمنيين في المملكة العربية السعودية، مما اضطر الكثير منهم – حوالي مليون عامل- للعودة إلى وطنهم، محدثين بذلك ضغطاً هائلاً على الاقتصاد اليمني المتضعضع، حيث تشير التقديرات أن اليمن خسرت نتيجة لهذه العقوبة مبلغ يقارب 3 مليارات دولار وهي قيمة الحولات المالية القادمة من العمال اليمنيين في السعودية إلى أهاليهم في اليمن، وتشير الإحصائيات الأخيرة أن الحوالات المالية للعمال اليمنيين الذين يعملون حالياً في المملكة العربية السعودية، تشكّل ما نسبته 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي لليمن.
التدخل السعودي في الشؤون اليمنية الداخلية لم يتوقف عند هذه الحدود؛ فبعد عقود من انفصال اليمن الشمالي والجنوبي، تم توحيد اليمنين في عام 1990 تحت قيادة صالح، (تُعزا الوحدة اليمينية إلى حد كبير لكون اليمن الجنوبي فَقَدَ الداعم المالي والعسكري الأهم له وهو الاتحاد السوفياتي)، ولكن بعد أربع سنوات فقط، اندلعت الحرب الأهلية بين اليمنين عندما سعى بعض الزعماء السابقين في الجنوب إلى الانفصال، وعملت السعودية حينها على تقوية فكرة الانفصال لدى الإقليم الجنوبي اليمني، الأمر الذي لاقى فشلاً في نهاية المطاف ببقاء اليمن الموحد، ولكن هذه المقاربة السعودية أثارت لدى معظم اليمنيين فكرة أن جارهم الشمالي يرى في اليمن الموحّد قوة تمثل تهديداً على مصالحه، ولم يقتصر الأمر على المملكة العربية السعودية، بل دعمت الدول الأخرى الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي فكرة الانفصال أيضاً، تبعاً لاضمحلال ثقتها بصالح بعد خيانته –المزعومة- خلال حرب الخليج برفضه التصويت على قرار الأمم المتحدة باستخدام القوة لإخراج القوات العراقية من الكويت.
الصراع للاستحواذ على المنطقة
بين عشية وضحاها قوضت سيطرة الجماعة الحوثية على صنعاء الخطوات الكبيرة التي حققها اليمن نحو المصالحة الوطنية؛ ففي نوفمبر من عام 2011 وافق صالح -الذي حكم اليمن منذ عام 1978- على التنحي تحت ضغط الاحتجاجات التي أبرزتها ثورة الربيع العربي في اليمن، حيث أُجبر صالح على توقيع اتفاق توسطت فيه دول مجلس التعاون الخليجي لنقل السلطة إلى نائبه هادي، هذه الصفقة حملت الكثير من الوعود البراقة عن المستقبل اليمني، حتى وصل الأمر بالمستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون اليمن جمال بن عمر للقول “لقد كان التحول في اليمن أمراً استئنائياً؛ البلاد كانت تتجه بالتأكيد نحو السيناريو السوري، ولكن الآن يمر اليمن بمرحلة انتقالية سلمية “.
إن المقارنة بين اليمن وسوريا يحمل وجهاً من الصحة؛ فكلا البلدين يرزحان منذ فترة طويلة تحت عبء الصراع القبلي والطائفي، كما أن اليمن وسوريا يأويان فصائلاً مسلحة تتلقى الدعم الخارجي من دول العدو، والحكومة المركزية في كلا الدولتين فقدت السيطرة على مساحات شاسعة من أراضي البلاد، فضلاً عن وجود جماعات إرهابية متنافسة في كلا البلدين؛ ففي اليمن يتمركز تنظيم القاعدة في جزيرة العرب الذي يحاول استغلال الظلم الذي يعاني منه اليمنيون خلال الفترة الماضية، وهذا التنظيم لا يختلف في وجوده عن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق و الشام (داعش) الذي يحتل مساحة لا يستهان بها من الأراضي السورية، كل هذه العوامل تجعل من الصعب على الزعيم السعودي الجديد الملك سلمان، أن يقرر كيف سيتعامل مع القيادة اليمنية الجديدة، ولكن بالنسبة للسعوديين، فإن القاسم المشترك بين جميع هذه المحن والمخاطر التي تعاني منها المنطقة هي إيران.
أدى انتخاب حسن روحاني رئيساً للجمهورية الإيرانية العام الماضي إلى تحسن طفيف في العلاقات السعودية- الإيرانية؛ فعلى سبيل المثال، التقى كبار المسؤولين من البلدين على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر 2014، لكن مواقف السعودية وإيران ماتزال على طرفي نقيض تجاه كل الصراعات التي تعصف بالشرق الأوسط (البحرين ولبنان وسوريا)، وفي ذات الوقت الذي تحسنت فيه العلاقات السعودية مع العراق بشكل ملحوظ منذ تولي حيدر العبادي رئاسة الوزراء في الصيف الماضي خلفاً لنوري المالكي، الذي كانت السعودية تعتبره ألعوبة إيرانية، أصبحت العديد من بلدان دول مجلس التعاون الخليجي تنظر إلى الحوثيين كوكلاء إيرانين، هدفهم تطويق الممالك السنية بالدول الشيعية المتحالفة مع إيران من بيروت إلى الخليج الفارسي، وإن هذه النظرة لم تقتصر على السعودية وبلدان الخليج فقط، بل أعربت الولايات المتحدة على لسان السناتور الديمقراطي ديان فينشتاين مؤخراً عن قلقها حول النفوذ الإيراني المتنامي، حيث أوضحت فينشتاين ذلك بقولها “ما يقلقني حقاً هو نهاية هذا التوسع الإيراني، إيران تدعم الحوثيين؛ فهل هي فعلاً تباشر بتطوير مشروعها المتمثل بالهلال الإيراني؟”.
بالنسبة للسعودية، تُعتبر سوريا المثال الأوضح على المساعي الإيرانية للتدخل في السياسات الإقليمية لتعزيز عدم الاستقرار في المنطقة، وترى السعودية أن إيران تعمد إلى دعم نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا ودعم حزب الله –الجماعة الشيعية في سوريا ولبنان- كأدوات لتحقيق مطامعها في المنطقة، حيث تتجه وجهة النظر السعودية لاعتبار الأسد على أنه السبب الوحيد لاستمرار شلال الدم في سوريا، كما أنه السبب بعلو شأن داعش في المنطقة.
أهون الشرين
على الرغم من أن موقف منظمات المجتمع الدولي كان متفائلاً ومتجهاً نحو عقد آمال كبيرة على النموذج اليمني (مثل الأمم المتحدة التي أشارات في عام 2013 إلى أن اليمن هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي حققت نجاحاً في التفاوض على انتقال السلطة السلمي)، إلا أن هذا التفاؤل تراجع أمام استقالة الرئيس اليمني التي وضعت اليمن مرة أخرى أمام شبح الانقسام، وفي الوقت الذي يسعى فيه أنصار حكومة هادي الغربيين للاستفادة من التطورات السريعة على الأرض والسرعة المذهلة التي تتحطم فيها التحالفات الضعيفة في اليمن، يجد الملك سلمان وقيادته السعودية الجديدة أنفسهم أمام خيار حاسم حول شكل العلاقة التي يجب على المملكة أن تحددها مع اليمن؛ فالتحليلات السياسية أشارت فيا سبق إلى أن التأثير السعودي في اليمن قد تضاءل بشكل ملحوظ منذ وفاة ولي العهد السعودي الأمير سلطان بن عبد العزيز في أكتوبر من عام 2011، وهو الشخص الذي كان مسؤولاً عن تحسين العلاقات السعودية مع اليمن، ويبقى لنا أن ننتظر لنرَ فيما إذا كان الملك سلمان سيحاول أن يبذل جهداً مماثلاً لجهد الأمير سلطان لتحسين العلاقات السعودية اليمنية، أم أنه سيلقي بهذه المهمة على كاهل ولي ولي العهد الأمير محمد بن نايف، الذي يتولى حالياً العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
إن المملكة السعودية حالياً أمام شرين محتومين؛ فمن جهة يهدد الحوثيون المملكة من حدودها الجنوبية، في نزاع مستمر منذ الحرب التي شنتها السعودية على الحوثيين في سلسلة من الاشتباكات العسكرية عبر الحدود في عام 2009 (النزاع الذي أثار تساؤلات حول ضعف أداء القوات السعودية أمام الحوثيين على الرغم من الكفة العسكرية الراجحة للملكة أمام ضعف المقدرات الحوثية)، ومن جهة أخرى تقف السعودية خصماً لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب الذي أطلق هجماته على المملكة منذ حين، وآخر هذه الهجمات وقعت خلال شهر رمضان الماضي وأسفرت عن مقتل خمسة رجال أمن سعوديين.
فضلاً عمّا سبق، يقف التجمع السني الأكبر في اليمن “حزب التجمع اليمني للإصلاح” كتهديد آخر لسعي السعودية لتحقيق الاستقرار في المنطقة، وذلك بالنظر إلى أن الإستراتيجية السعودية في المنطقة تهدف إلى القضاء على الجماعات الإسلامية السياسية مثل الإخوان المسلمين والمنظمات التابعة له، وأمام هذا الواقع يرى البعض أن مجارة الحوثيين قد يكون خياراً أكثر قبولاً من التحالف مع حزب التجمع اليمني للإصلاح، على الأقل في المدى القصير، ولكن – كما هو الحال في مثل هذه السيناريوهات- فإن الغنائم التي قد تنجم عن هذا التحالف الغير مستساغ تكاد تكون معدومة؛ لذا فإن السعودية حالياً عليها أن تختار ما بين أمرين أحلاهما مر.