د. ميثم لعيبي *
مشكلة الموازنة ليست جديدة
ان المشكلة التي نواجهها الان، هي ليست في الموازنة نفسها، لكن الموازنة 2015 تكشف لنا مرة اخرى عورة الاقتصاد العراقي، تلك العورة التي طالم حذرمنها مجموعة كبيرة من الاقتصاديين الذين لا يرتبطون بعلاقات او مصالح حزبية وفئوية، وهي مشكلة تدور حول محور رئيسي هو كون العراق بلد يعتمد على مورد لا يتحكم بطلبه الخارجي ولا باسعاره، وما يلحقها من مشكلات هذه الاعتمادية، ومخاوف من وحدوث هزات اقتصادية كبيرة سواء في الاسعار أو تباطؤ النمو أو البطالة، والاهم من ذلك ان تكريس هذه الاعتمادية يقود الى المزيد من الاختلالات الهيكلية التي يصعب علاجها مع مرور الزمن، وبالتالي فنحن نتحدث الان عن نتيجة لا سبب..
من مقارنة الموازنة التقديرية للعام 2014 بموازنة 2015، نلحظ ان نسبة الانخفاض في النفقات الاجمالية هي بحدود الـ20%.. وبما ان البلد جله مرهون بالنفقات الحكومية، فان المتوقع ان نواجه ركودا اقتصادياً، وما يعزز هذا الركود هو بدء التوقعات التشاؤمية، وما يصاحبها من انكماش في الطلب والبحث عن خيارات الهروب من الدينار العراقي واستبداله باصول خوفا من تدهور قيمته .
البنك المركزي ومزاد العملة
يبدو ان الدولة (ممثلة بالحكومة، والبرلمان، والبنك المركزي) ذهبت الى خيار تقليص مبيعات الدولار (الى 75 مليون دولار يوميا، وهو يقارب التخفيض الى النصف) وذلك لثلاثة اسباب كما ارى، اولها: توقع شحة الدولار ومحاولة المحافظة على الدولارات التي اصبحت عزيزة، وثانيها: توقع انخفاض حاجة السوق الى الدولارات لانه سيواجه ركودا نتيجة انخفاض الطلب الناجم عن انخفاض الانفاق الحكومي، وثالثا: لانها لا تريد ان تذهب الى خيار تغيير سعر الصرف لان هذا الخيار قد يخلق حالة ذعر وتزايد المضاربة والاسعار.
والسؤال الذي يدور في الاذهان ربما، هل هناك احتمالات لارتفاع سعر الدولار؟ وزيادة الفجوة بين سعره الرسمي الذي يتحدد وفق مزاد العملة وسعره الموازي في السوق، الجواب: هو ان التوقعات تذهب الى هذا الاحتمال، لكن هذه الزيادات يمكن ان تكون طارئة ويمكن ان يواجهها البنك المركزي ببيع كميات اضافية في البداية وذلك من اجل تطمين مخاوف السوق. لكن في حال استمرار انخفاض اسعار النفط فان هذه المخاوف يمكن ان تتحول الى مشكلة حقيقية تتطلب البحث عن الاجابة عن سؤال لا يقل خطورة وهو الذي يتعلق بامكانية التخلي عن سياسة الدولار الرخيص والتدرج في تخفيض سعر الدينار العراقي؟
مستوى الاسعار والبطالة:
من المفترض ان تنخفض الاسعار العالمية، بسبب انخفاض تكاليف الانتاج، لان النفط يدخل كمكون رئيسي فيها، ما يجعل من المتوقع ان يؤدي انخفاض اسعار النفط الى انخفاض التكاليف ومن ثم خفضا في اسعار السلع المستوردة، لكن هل سينعكس ذلك على انخفاض الاسعار في الداخل فعلا، على اعتبار اننا بلد مستورد صافي لجل السلع؟ الجواب، ان ذلك يمكن ان يحدث ، على الرغم من ان الانخفاض لن يكون بنفس مستوى انخفاض اسعار النفط، ولا بنفس السرعة ولا على مستوى كافة السلع والخدمات. وهو امر مرهون باستمرار اسعار النفط عند هذه المستويات المنخفضة من عدمه، علما اننا هنا نواجه تحليلات قصيرة الاجل قد تتغير في اية لحظة. لذا يمكن القول ان التجار يمكن ان يستجيبوا الى ذلك ويقوموا بتخفيض الاسعار، ولو بفترة تلكؤ، لكن هناك اثار اخرى قد تكون متعارضة، تلغي قوة هذه الانخفاض.
وبشكل عام فان اثار الانخفاض في النفقات العامة بشقيها الاستثماري والجاري، سيؤدي الى انخفاض في الطلب الكلي، الى التأثير في مجمل حركة العرض والتداول، وهو ما يمكن ان يساهم في انتشار اثار الركود والبطالة.
الادخار الاجباري:
ان تسمية المبالغ التي سيتم استقطاعها “اجبارا” من رواتب الموظفين، بإسم “الادخار الاجباري” هو خطأ شائع، رغم انها وردت في الموازنة تحت إسم “الادخار الوطني”. فالادخار الاجباري، امر مالي مختلف قليلاً، وهو أساساً احد طرق تمويل التنمية، وذلك عندما لا تكفي مدخرات الافراد والمؤسسات لتمويل الاستثمارات المطلوبة، اذ يتم اللجوء له. والادخار الاجباري، يتمثل بالقيام باصدار نقدي جديد، الذي يمثل قوة شرائية جديدة بيد الحكومة لتمويل نفقاتها؛ الاستثمارية غالبا، او تلك التي يكون وراءها تحريك للقطاع الخاص الانتاجي، لكن هذا الاصدار الجديد، غالبا ما يؤدي الى ارتفاع الاسعار، وانخفاض القوة الشرائية للافراد. ويمكن ان نلحظ ان هناك تحويل للقوة الشرائية من يد الافراد الى يد الدولة، وهنا هو قريب من معنى الضريبة. ويسمى اجباريا، بسبب عدم امكانية التهرب منه كما هو الحال في الضريبة، لذا فهو قريب من الضرائب غير المباشرة التي تأتي مدمجة مع اسعار السلع والخدمات، ومن ثم يصعب التهرب من دفعها. اما المعنى الذي الذي اريد في الموازنة 2015 فيمكن ان يقترب مما يعرف بـ”القروض الاجبارية” التي تؤخذ من الافراد؛ والموظفين الحكوميين عادة. كما لا يفوتنا ان نذكر ان الاجبار، هو الاستثناء في الاقتراض والادخار، فالاصل انهما اختياريان. لذا فان المعنى هنا يقترب من كونها قروض، لانها قابلة للرد مستقبلا، كما انها تستوجب فائدة، وهو ما يتلائم مع النوعين: الاقتراض والادخار. ولا علم لدينا ان كانت الاموال التي ستستقطع من رواتب الموظفين، سترد بفائدة أم لا؟ ولا أعلم متى سترد، أو هل سترد أصلاً. لكن بكل الاحوال، فانه اياً كانت التسمية، فان الحقيقة الكبيرة، هي ان هذه الضرائب ستفرض على رواتب موظفي الدولة، التي اساسها من الموارد النفطية، وهو ما يضعف اثارها كونها ضريبة حقيقية يمكن ان تؤدي اثارها المرغوبة سواء على الكفاءة الاقتصادية أم العدالة أم حتى تحقيقها للهدف المالي.
الاقرار السريع للموازنة
ان الحكمة ليست باقرار الموازنة بحد ذاته، بل ايضا بجودة الموازنة.. وهي كما ازعم منخفضة كثيرا، اذ ان اغلب الاصلاحات هي وقتية وقصيرة الاجل ولم يراعى الاطار متوسط وطويل الاجل الذي يهدف الى وضعها ضمن استراتيجية وطنية شاملة تضمن تنفيذ برنامج الحكومة.
وهناك شبه احباط (لا فرق) من قبل الحكومة حول اقرار الموازنة باي مستوى من النفقات والايرادات وعند اي مستوى من العجز واياً كانت طرق تمويله، والدليل ان د.حيدر العبادي، لم يوافق على ارجاع الموازنة للحكومة وطلب؛ بدلا عن ذلك، من اللجان البرلمانية ان تقوم باجراء التعديلات. وهذا يمنحنا انطباعا ان هذه الموازنة شكلية وان اطلاق الصرف الاجمالي هو اكثر ما يشغل الحكومة لتنفيذ التزاماتها بدون النظر في التفاصيل وكأنه امر ليس لها يد فيه، وهذا مخالف للواقع، اذ ان المفترض انها الاعلم بتخصيصاتها والاقدر على تحديد اي النفقات يمكن تخفيضها او ابقاءها..
كما يبدو من الجو العام، ان ثمة توقع بعودة ارتفاع اسعار النفط (حسب ما سمعنا من اكثر من مسؤول التوقع بعودة الانتعاش في غضون 3-6 اشهر)، ما يعني امكانية اعادة النظر بمجمل النفقات والعجز تبعا لتزايد الايرادات المتوقع. وهذا يعني ان الذي جرى في الموازنة ليس اصلاحا اقتصاديا بقدر ما هو تخفيض اضطراري سيجري التخلي عنه بعد ارتفاع اسعار النفط.
الاقرار السريع للموازنة؛ وهذا اهم ما في الامر، يرتبط، برأيي، بان الصراع طوال السنوات الماضية والذي تشهده الكتل وما كان يتبعه من طول امد اقرار الموازنة، لم يكن؛ بالضرورة، لغايات وطنية واصلاحية، بل تقاسما لاموال كبيرة، وجزء من السبب في الاقرار السريع الحالي، هو ان هذه الموازنة منخفضة الى حد كبير، وهذا امر يدعونا الى التفكير بشكل جدي مستقبلا الى كيفية الابقاء على هذه الحدود المنخفضة من عدم التنافس على الاموال، ومن المفيد هنا التذكير بثلاث امور هي اللامركزية المالية، والصناديق السيادية، وتقدير الموازنة عند اسعار تقديرية منخفضة للنفط، حتى لو عادت الاسعار الى الارتفاع.
وبالتأكيد فان هذا لا يعني ان ليس ثمة توافق سياسي دعما للحكومة، وهي في الاطوار الاولى من عمرها، وهو امر عادة ما يحدث في البدايات، لكنه غير مضمون للاستمرار في نهاية دورة حياتها.
* أستاذ جامعي وباحث إقتصادي