خليل العناني
ذكرّتنا جريمة “داعش” مع الطيّار الأردني الأسير، معاذ الكساسبة، بما وصلت إليه نفوسنا وأخلاقنا وقيمنا من تدنٍّ وانحدار. ودقت جرس إنذار كبير، ينبهنا إلى حجم الخراب والتوّحش الذي أصاب عقول بعضهم، وطمس بصيرتهم، بسبب السياسة وتحزباتها وخلافاتها. وفي الوقت الذي لا يمكن لأي عقل سويّ، وقلب ذي بصيرة، إلا أن يستنكر هذه الجريمة الوحشية، وقع كثيرون فى مربع اللوم واللوم المضاد، وازداد الاستقطاب بين فريقين، حاول كلاهما إثبات وجهة نظره. فريق يدافع عن طريقة قتل الأسير، ويعتبرها قصاصاً وعقاباً مستحقاً له، ولمن يقف خلفه، وفريق آخر يستنكر الجريمة، لكنه يوظفها لتحقيق مكاسب ونقاط سياسية في مرمى الطرف الآخر. ووصل الأمر إلى مؤسسة الأزهر، منارة الوسطية كما يدّعى بعضهم، والتي وقعت في فخ التحريض على العنف والقتل. وكأننا بتنا لا نستطيع أن ندين ما حدث، ونستنكره، من دون الوقوع في مربع التبرير الذي ينسف مواقفنا القيمية والأخلاقية. ألا يمكن للمرء أن يدين الأمرين معاً؟ ولماذا يقع بعضهم في فخ المزايدة والتشفي فى الأنفس والأرواح التي هي حرمتها عند الله أكبر من حرمة بيته الحرام؟ ولماذا لا نتسق مع أنفسنا، وندين الأفعال الإجرامية كافة، سواء ارتكبتها سلطة مستبدة، أو جماعة مارقة ومتطرفة؟
عندما كتب ابن خلدون في مقدمته الشهيرة عن أن الظلم مؤذنٌ بخراب العمران، لم يكن يقصد فقط العمران المادي، وإنما، أيضاً، العمران الأخلاقي والقيمي. فنظرية العمران تضع النفس موضع التقديس، ليس فقط باعتبارها جوهر الحياة ومقتضاها، وإنما، أيضاً، كون حفظها وحمايتها يعد أحد أهم مقاصد الشريعة الإسلامية. ولا يتعلق الأمر، هنا، بالبعد الديني، وإنما، أيضاً، البعد الإنسانوي، وكيفية تقييمنا الأشياء، ورؤيتنا الأخلاقية لها. ومن دون الخوض في الإشكالات السياسية لحالة الكساسبة، فإن العنف والإجرام “الداعشي” يبدو ممنهجاً وليس حالاً عارضة. وتعد طريقة التعاطي مع الخصوم بهذه الوحشية والبربرية إحدى الأدوات الاستراتيجية للتنظيم، والتي تفوّق فيها على ما عداه من تنظيمات إرهابية ومتطرفة. ولا أذكر تنظيماً في العصر الحديث وصل إلى مثل هذا المستوى من القبح الأخلاقي والانحطاط القيمي، في التعاطي مع من يخالفه أو يعارضه.
وإذا كان بعضهم يشعر بالتعاطف مع “داعش” لقناعة أيديولوجية، أو لموقف سياسي ما، فإن المسألة باتت تتجاوز ذلك بكثير. فنحن إزاء سلوك “بربري” محض، وعقلية تبدو نفسيّاً مريضة، لا يهمها سوى الانتقام والتشفّي من خصومها، بطريقة تتجاوز كل القواعد والقيم الأخلاقية والإنسانية. ولا يمكن، على الإطلاق، تبرير مثل هذه الأفعال، تحت أي غطاء، سواء باعتبارها دفاعاً عن النفس، أو تعبيراً عن الانتقام من خصم مشترك.
تعاطفك مع مثل هذه الأفعال الإجرامية لا يؤكد فقط العوار الأخلاقي والقيمي لديك، وإنما، أيضاً، يكشف أن ثمة رغبة انتقامية كامنة في داخلك، تنتظر الوقت المناسب، كي تصبح سلوكاً فعليّاً. وهو ما يشي بأننا بتنا إزاء نفوس مريضة، ومعقدة، خرّبتها السياسة، وأفقدتها سلامة القلب ورجاحة العقل. كما أنك لست مضطراً للتعاطف مع الدواعش، لكي تبرز معارضتك الاستبداد وتشفي غليلك من جرائم التسلط والتغلّب. فالأول ليس قطعاً علاجاً للثاني، كما أنه لا يمكن أن يصبح البديل منه، إلا إذا كنت “داعشيّاً” ساكناً تنتظر التنشيط والتفعيل.
تطرح جريمة “داعش” علينا أسئلة كثيرة، أهمها: كم من “الدواعش” يعيشون بيننا من دون أن ندري؟ وكم منهم يدعم ويبارك ما يفعله هذا التنظيم المتوحش، قولاً أو فعلاً أو تمنّياً؟ ولماذا وصل بعضنا إلى هذه الدرجة من العدمية الأخلاقية والإنسانية، في التعاطي مع خصومه؟ وقبل كل شيء: كيف يجرؤ هؤلاء على الادعاء بأنهم يمثلون الدين الإسلامي الحنيف؟