تُهيمن الاضطرابات الإيرانية على أخبار الشرق الأوسط منذ [أكثر] من أسبوعين، وتشكل قصة ضخمة لا سيما مع انتشار التظاهرات إلى ما يقرب من ثمانين مدينة في البلاد.
ولم تبدُ إيران بصورة العملاق الذي لا يمكن وقف تمدد نشاطه في المنطقة، بقدر ما بدت بصورة البلاد التي قد يكون موضع استقرارها موضع شك على المدى الطويل. وفي الواقع إن التركيز على إيران لم يتراجع في الثاني عشر من كانون الثاني/يناير الحالي، بعد أن ردّ الرئيس ترامب مرة أخرى على القانون الذي يستوجب منه المصادقة على عدم ارتكاب الجانب الإيراني لأي انتهاك مادي للالتزامات المفروضة عليه بموجب “خطة العمل الشاملة المشتركة”، والاتفاق النووي، وبفائدته لمصالح الأمن القومي في الولايات المتحدة. [وقد قرر الرئيس الأمريكي تمديد تعليق العقوبات الاقتصادية المفروضة على ايران استناداً الى الاتفاق النووي “للمرة الاخيرة”. وطالب “باتفاق” مكمّل مع الاوروبيين من أجل “سد الثغرات الكبيرة” في نص الاتفاق النووي. وقال ترامب ان الاتفاق الجديد يجب أن يكبح البرنامج الصاروخي الإيراني وأن يفرض قيوداً دائمة على المفاعلات النووية الايرانية، وأن يلغي مواعيد انتهاء العقوبات التي ينتهي مفعولها بعد عقد من الزمن].
وفي الواقع، أوضح الأوروبيون جلياً أنهم مستمرون في التزامهم بالاتفاق النووي – خاصة وأن إيران تفي بالتزاماتها المنصوص عليها في الاتفاق. [وقد أضاف الرئيس الأمريكي اسم آية الله صادق آملي لاريجاني، رئيس السلطة القضائية للجمهورية الاسلامية، الى لائحة العقوبات الأمريكية”.]
وسيظل من المهم الحفاظ على التحالفات من أجل مواجهة التحدي الإيراني في المنطقة. فتكاليف نزعة المغامرة الإيرانية في المنطقة قد أحدثت رد فعل عنيف لدى الرأي العام الإيراني. وهذه هي المرحلة، التي تدل على أن إيران وحيدة على الساحة الدولية هي التي تصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى. فهي تزيد من حدة التناقضات داخل إيران وتجبر القيادة على التفكير بجدية أكبر فيما إذا كان بإمكانها مواصلة جهودها المكثفة في سوريا، ومع «حزب الله» والمليشيات الشيعية الأخرى، والحوثيين وحركتي «حماس» و «الجهاد الإسلامي في فلسطين». يجب أن تكون السياسة الأمريكية مصممة بما يؤدي إلى رفع تكاليف هذه الجهود – وهذا أمرٌ يمكن إنجازه دون الحاجة إلى الانسحاب من «خطة العمل الشاملة المشتركة».
بيد، أن هذا الأمر يتطلب حتماً الحفاظ على الدعم الأوروبي وإنهاء الخلافات بين دول «مجلس التعاون الخليجي»، إذ أن الانقسام بين السعودية والإمارات والبحرين من جهة وقطر من جهة أخرى يضرّ بالجهود الرامية إلى التصدي لسياسات إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة – وهذا لا يقتصر على كون هذا الانقسام يتيح لإيران استغلال الخلافات، كما تفعل من خلال تقربها من القطريين وتوفيرها البدائل التجارية للحصار المفروض حالياً من قبل السعودية وحلفائها. فالإيرانيون يعملون على صعيدٍ أعمق من ذلك، حيث يستخدمون الميليشيات الشيعية لمحاولة سد الفراغ في المناطق التي هُزم فيها تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») في سوريا والعراق. وإذا واصلوا نهجهم الطائفي والاستبعادي الذي يقمع السنّة ويحرمهم من حقوقهم، سيعيدون خلق الظروف التي أنتجت تنظيم «داعش» في الأساس.
ومنعاً لإعادة انبثاق “ابن «داعش»” في تلك المناطق – مع كل ما قد يعنيه ذلك بالنسبة للولايات المتحدة – يجب على إدارة ترامب أن تحشد الموارد اللازمة من الدول الأخرى للمساهمة في إعادة الإعمار وإرساء الأمن والحوكمة على المستوى المحلي. فإذا حصل السكان والقوات المحلية على الدعم الملموس اللازم، يصبح بوسعهم بذل المزيد من الجهود لمقاومة زحف الميليشيات الإيرانية/الشيعية. لكن الانقسامات الحاصلة بين دول «مجلس التعاون الخليجي» لا تجعل هذا الأمر أكثر صعوبة فحسب، بل تحدث انحرافاً عن التحديات الجوهرية في المنطقة – سواء أكانت النزعة التوسعية الإيرانية أم خطر معاودة ظهور تنظيم «داعش» بهيئةٍ جديدة مختلفة.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تحتفظ بقاعدة جوية ضخمة ومتطورة للغاية في منطقة العديد القطرية، ومع أن القطريين يدفعون معظم تكاليفها، لا يجدر بواشنطن الوقوف على الحياد فيما يخص سوء التفاهم هذا. فالمملكة العربية السعودية منخرطة اليوم في مشروع تحول وطني، الذي لدى الولايات المتحدة مصلحة كبيرة في نجاحه. وبغض النظر عمّا فعله رجال الدين السعوديون في الماضي، فإنهم لم يعودوا ينشرون أيديولوجيا متعصبة عنيفة تبرر الإرهاب ضد الكافرين.
بيد أن هذا القول لا ينطبق على قطر. بدءاً من استضافتها لـ جماعة «الإخوان المسلمين» وعناصر من حركة «حماس»، ووصولاً إلى تمويل التنظيمات الجهادية في سوريا وليبيا، تتصرف قطر بما يتناقض مع التزامها بمكافحة الإرهاب. بالإضافة إلى ذلك، فهي تدعم قناة “الجزيرة” التي شكلت منصة مستمرة للمعتقدات والحجج المتطرفة. فعالم الديني الإسلامي والمرشد الروحي لجماعة «الإخوان» يوسف القرضاوي لا يزال في قطر، وهو الذي كان له برنامجاً أسبوعياً على قناة “الجزيرة” لمدة طويلة. وبينما كان يقدّم النصائح حول كيفية العيش على الطريقة الإسلامية في الكثير من الأمور الحياتية البسيطة، فقد كان يدعو أيضاً إلى مهاجمة القوات الأمريكية والمدنيين الأمريكيين في العراق وإلى قتل اليهود، بالإضافة إلى تبرير التفجيرات الانتحارية في إسرائيل، وإعطاء التسويغات المنطقية لمكانة المرأة الثانوية ولإساءة معاملتها.
وصحيح أن يوسف القرضاوي الذي يبلغ من العمر 91 عاماً، لم يعد يقدم برنامجه على “الجزيرة”، ولكن هذه القناة لا تزال تحرّض أكثر مما تركّز على التوعية.
فلنأخذ ما حدث في الصيف الماضي حين وضع الإسرائيليون أجهزة كشف المعادن عند مدخل الحرم الشريف بعد مقتل اثنين من حرس الحدود الإسرائيليين بواسطة أسلحة مهربة إلى داخل هذا المقام المقدس في القدس. فلم تكتفِ مراسلة قناة “الجزيرة” نسيبة موسى بتغطية التظاهرات الفلسطينية وأعمال العنف التي وقعت ردّاً على هذا العمل، بل شجّعت هذه الردود الفلسطينية وبلغ بها الحد أن حاولت أن تُشعر المزيد من الفلسطينيين بالعار لحثّهم على القيام بأعمال شغب حين قالت إن الأشخاص الذين يقفون بوجه الإسرائيليين لديهم [على الأقل] “كرامة”. وعندما قام الإسرائيليون بإزالة أجهزة كشف المعادن، غطّت “الجزيرة” بكثافة زعيم حركة «حماس» اسماعيل هنية الذي تحدث عن النصر الكبير الذي أرغم الإسرائيليين على التراجع في هذه المسألة. وتابع بدعوة الأطفال والنساء والرجال إلى الاستمرار في مقاومة قوات الاحتلال معلناً بأن القتال ضد قوات “جيش الدفاع الإسرائيلي” هو “شرفٌ” لهم.
وردّاً على إعلان ترامب الذي اعترف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، نشرت مؤخراً قناة “الجزيرة” على موقعها الإلكتروني مقالاً بعنوان “كيف وصل ترامب إلى مرحلة هدم الأقصى؟” ويتهم هذا المقال كلاًّ من ترامب وإسرائيل بالرغبة في هدم المسجد الأقصى الذي يعد ثالث أقدس مقام في الإسلام، بينما يصف مصر والسعودية بالجهات الممكّنة لهما مشيراً إلى أن المنقذ الوحيد هو حركة «حماس». وهذا خير مثال عن الخبر العاري عن الصحة تماماً والهادف فقط إلى تحريض المشاعر.
فما الذي يجب فعله بهذا الصدد؟ لا بد أولاً من الإقرار بأن الولايات المتحدة تعتمد على قاعدة العديد الجوية؛ ولكن لا يجوز أن تكون هذه القاعدة تذكرة عبور إلى الحرية لدولة قطر؛ وهذا أمر يجب إبلاغه إلى الأمير تميم بن حمد. ثانياً، يجب على واشنطن أن تحدد أهم التصرفات غير المقبولة التي يجب على قطر تغييرها. وهذا لا يعني القبول بكل مطالب السعودية والإمارات والبحرين ومصر، ولكنه يعني الحرص على منع قطر من لعب هذا الدور الازدواجي من خلال دعم الولايات المتحدة بأساليب عملية – وأبرزها قاعدة العديد – بينما تواصل تقديم الدعم المالي للعقيدة الإسلامية المتطرفة وتأمين منصة لتشريعها.
وعلى وجه التحديد، على الولايات المتحدة أن تحرص على القضاء كلياً على حملات جمع الأمول للشبكات الإرهابية في قطر. ولا بد في هذا الإطار من التنفيذ التام لمذكرة التفاهم حول تمويل مكافحة الإرهاب التي وقعتها مؤخراً وزارة الخارجية الأمريكية مع قطر. وقد يعتمد الكونغرس تشريعات تتطلب من وزارة الخارجية الإبلاغ عن الإجراءات المتخذة والتي تثبت أن قطر تفي بالتزاماتها. وفي ما يتعدى إطار تنفيذ مذكرة التفاهم، يجب على واشنطن أن توضح لقطر أن كل طرف تصنّفه الولايات المتحدة على أنه يدعم الإرهاب أو يسهّله لن يُمنح اللجوء أو الملاذ في قطر. وعلى النحو نفسه، فإن أي تنظيم تميزه الولايات المتحدة على أنه يرتكب أعمالاً إرهابية لن يحظى بأي دعم مالي من قطر – وهنا يمكن كتابة التشريعات المعتمدة للإبلاغ عن مذكرة التفاهم بحيث تتضمن تقارير عن كيفية وفاء قطر بهذه المتطلبات.
وأخيراً، لا يُخفى على أحد أن قناة “الجزيرة” تشكل تحدياً. ولا يفترض بالحكومة الأمريكية أن تنخرط في فرض الرقابة على شبكات البث، حتى تلك المشابهة لقناة “الجزيرة” والتي تسعى في معظم الأحيان إلى تعبئة الجماهير عوضاً عن إعلام مشاهديها. ولكن حتى وإن لم يكن إغلاق القناة هو هدف الولايات المتحدة، فليس هناك ما يبرر استمرار قطر في دعمها مادياً. ولذلك ينبغي مطالبة الحكومة القطرية بأن تسحب تدريجياً دعمها المالي لها. وإذا كانت “الجزيرة” قناة موثوقة بالفعل، يفترض أن تتمكن من الحصول على التمويل الخاص الذي تحتاجه وأن تبيع أوقات البث التجارية لتأمين مستلزماتها.
ونظراً للتحديات التي ينطوي عليها الشرق الأوسط، تحتاج إدارة ترامب إلى شركاء. فالتعاون مع الأوروبيين والأصدقاء العرب للولايات المتحدة أمر ضروري إذا أرادت واشنطن التصدي للأعمال الإيرانية المزعزعة للاستقرار ومنع ظهور خلَف راديكالي لـ تنظيم «داعش». وفي هذا الإطار، من شأن إدارة «خطة العمل الشاملة المشتركة» من جهة، وإنهاء الجمود وما يشمله من مقاطعة لقطر من جهة أخرى، أن يؤمّنا القاعدة اللازمة لتحقيق الأهداف الأمريكية الأساسية في المنطقة.