تجاوز الماضي السياسي بالخصوص المليء بالدم والثأر والخلافات السياسية هو اصعب انواع القرارات التي اتخذت في ازمات دولة قريبة من المشهد العراقي، وعملية عبور الماضي نهائيا مكلفة سياسيا وقد يدفع رعاتها ثمنا شعبيا بالغا لها اذا لم تكن مفهومة او مقبولة او مخطط لها بصورة صحيحة.
وفشل رؤوساء الحكومات المتعاقبة ما بعد 2003 في ان يخلدوا حدث واحد لكن صدام نجح في تخليد ذكرى حروبه وبنى نصبا ضخما للمساكين الذين ازهقت ارواحهم بالنار في تلك الحروب لكي يتمظهر هو سنويا في هذا النصب محتفلا بذكرى من قتلهم من اجل ان يبقى متسلطا على رقاب الشعب العراقي.
كانت المفاجئة ان يقيم تيار الحكمة الوطني احتفاليته هذه السنة بذكرى يوم الشهيد، الاول من رجب، حيث استخدموا نفس تكتيك السنوات الماضية من احتفالية موحدة في عدت محافظات تنقل بصورة مباشرة لتظهر تنوع وكثرة وامتداد افراد التيار، لكن القفزة هذه السنة كانت عندما اختار الحكيم نصب الشهداء، ليكون مكانا عاما لاحتفال تياره ويلقي فيه كلمة وخلفيته الاساسية هو نصب الشهداء بكامل رمزيته السابقة بكونه رمزا لشهداء قادسية صدام؟.
لكن كيف استطاع الحكيم ان يجمع بين نصب شهداء القادسية وذكرى شهادة( شهيد المحراب) حسب ادبيات المجلس والحكمه وخلف شهيد المحراب الآلاف من الشهداء الذين كانوا يقفون على الضفة الاخرى ويقاتلون بالضد من القادسية، وما هي رسالة الحكيم من هذا الجمع القسري المهم والخطير والحساس في آن واحد؟!!!
مصالحة مع الماضي…
الجماهير تهتف للشهيد الحكيم: ( وينه الحاربك وينه صدام النذل وينه )، لعل رسالة السيد عمار الحكيم كانت ان تيار الحكمه يريد ان يتصالح مع الماضي كل الماضي، ويتجاوز عن الكثير من العقبات التي وضعت لاسباب سياسية ولاسيما وان حديث احتفالية السيد عمار الحكيم قد ضم هذا العام تجمعات في مدينتي الموصل وتكريت، وبالتالي اراد الحكيم اظهار رسالة سياسية هامة الى هؤلاء الشباب في المناطق الغربية بأنه تجاوز الكثير من مخلفات الماضي وانطلق الى النظرة الوطنية الجامعة التي تعتبر كل شيء سابق هو ملك البلد والوطن والشعب، وبالتالي فنصب الشهداء بعد صدام هو ملك العراق والعراقيين جميعا وان النظر الى رمزيته واسمه ليس لها نصيب من الواقع بمقدار ماهو نصب للشهداء وان شهداء القادسية هم عراقيين مثلما ان شهداء العراق ما بعد القادسية والى اليوم على مختلف مشاربهم هم عراقيين فتكون الشهادة صفة عامة بدون تمييز سياسي او مذهبي؟.
لكني على مستوى التحليل السياسي لايمكن ان اتجاوز في الحدث والصورة رسالة سياسية اخرى فالشباب الذين تجمعوا في تكريت والموصل لايمكن ان تصلهم مثل هذه الرسالة المشفرة، لذلك فهي مرسلة الى من هم ابعد واكبر منهم من رجالات وقيادات السنة بما فيهم رجالات المرحلة الماضية بان الحكمة، هو تيار حكمة حقيقي وجديد بمعنى الكلمة، وقد وصلت مقدار حكمته بطريقة حرق المراحل لتصل الى هذا المستوى البالغ.
النصب لمؤسسة الشهداء…
في تيار الحكمة يقولون ان النصب والجداريات الكبيرة بنيت باموال العراق وهي ملك الدولة والوطن ونصب شهداء القادسية سابقا اسمه اليوم نصب شهداء العراق وهو تابع لمؤسسة الشهداء التي اسست ما بعد سقوط سلطة صدام، وهذه المؤسسة الاخيرة تعني كل الشهداء الذين سقطوا في طريق مقارعة نظام صدام حسين وزبانيته وبالتالي زالت رمزية النصب السابقة، واصبحت للنصب رمزية جديدة تابعة لمؤسسة الشهداء، بالرغم من ان هذه المؤسسة لم تجري عليه اي تغيير ولو طفيف لكي يتحور مضمونا وليس شكلا خلال السنوات الماضية..
وتضيف مصادر الحكمة انه لايمكن التعامل بازدواجيه، فالقصر الجمهوري مثلا كان يسكنه صدام وهو الان مسكن لرؤساء الوزارات والمسؤولين الشيعة والكرد وغيرهم وهذه مثل تلك، ما للدولة هو للشعب والاحتفال في نصب الشهداء هو احتفال على ملك الشعب العراقي جميعا…
الحكيم انا ابن اليوم….
شهداء قادسية صدام ، يقابله على الطرف الاخر شهداء المجلس الاعلى او تيار المعارضة العراقية ثنائية تمثل مسيرة التقاطع بين العراقيين والدماء التي سالت بينهم وخلفت شقوقا عميقة في وجدان اغلبهم، ومع مغادرة السيد عمار الحكيم للمجلس الاعلى وتأسيس تياره الجديد فهو يريد ان يؤكد على انه لم يخرج سياسيا من التشكيل العقائدي الذي اسسه عمه ليقاتل بالضد من القادسية وصدام ويكون الطرف الثاني المغاير، وانما التجديد هو عام في فكر الحكيم وحركته ومفاهيمة بشكل حقيقي وجدي…
لعل رسالة الحكيم كانت انا ابن اليوم العراقي ولست ابن الأمس الذي لم يكن لي يد في صناعته، لا سياسة ولا حروب ولا نصوب، وكزعيم لتيار وطني عراقي فيه منتمين من كل شرائح الوطن فليس لدي مشكلة في تجاوز اطر ضيقة او تفسيرات معقدة توضع لهذا النصب او ذاك المكان، فعمار الحكيم هو ابن اليوم وليس ابن الأمس، ولكي يثبت هذا بصورة واضحة لمن يفهم الرسالة فهو قد زاوج بين ذكرى شهادة عمه ورمزية نصب الشهداء في زمن النظام السابق للتأكيد على ان الماضي وما فيه الدم والثأر للنفس أو من الآخرين لم يعد له وجود في متبنيات تيار الحكمه حاليا.
الخلاصة
كان ولازال يتوجب على مؤسسة الشهداء ان تضع خطة لاجراء تغيير ولو شكلي بان تضيف مثلا رمز آخر بجنب العلم العراقي في منتصف القوسين لتخليد ذكرى شهداء المقابر الجماعية وشهداء المعارضة وشهداء الحرب على الارهاب وشهداء الحشد، وبهذه الحركة البسيطة يتحول الى نصب شهداء العراق عموما وتلغى رمزيته الاولى المرتبطة بالقادسية وصدام…
أعلام الحشد الشعبي هو أول من استخدم نصب شهداء القادسية في كليبات اعلامية تتغنى ببطولات وشجاعة الحشد الشعبي بدون ان يضعوا لرمزيته السابقة اي معنى او تأثير وقد استخدموا النصب قبل تيار الحكمه في المادة الاعلامية…
السيد عمار الحكيم انجز المهمة واجزم انه قد درسها من الفها الى يائها بدقة قبل ان يقدم عليها وهو معروف بالدقة وعدم التسرع، ورسالته السياسية كانت واضحة، وداعا للغد بما يحمل من مآسي للعراقيين.
وكانت رسالة الحكيم الاهم للآخرين ونحن على اعتاب مرحلة انتخابية فاصلة، ان “تيار الحكمة وقائده افضل من يملك قدرة التجاوز ونسيان الماضي، وعليه فهو الاحسن في السلطة والانتخاب والحكم”، بمعنى كانت رسالة انتخابية بالغة الاهمية …