فاجأ الرئيس الأميركي دونالد ترمب الكثيرين بإعلانه أن الولايات المتحدة ستغادر سوريا قريبًا، إن في الشرق الأوسط أو خارجه. مع ذلك، ينبغي ألا يكون هذا الإعلان مفاجئًا. فمن استمع إلى ترمب خلال حملته الانتخابية، وبعد انتخابه، يتذكر أنه تحدث في ولاية أوهايو مؤكدًا أن خطوته السياسية الأولى ستكون في سوريا، وأنه كرر التعهد نفسه مرتين في الأسبوع الماضي.
في صفوف الجمهوريين، ثمة ناخبون كثيرون تعبوا من الحروب المتتالية في العراق وأفغانستان. وينطبق الشيء نفسه على الحزب الديمقراطي. فالحروب التي دخلتها الولايات المتحدة كانت مكلفة، ماليًا وبشريًا. والآن، بعدما صار ترمب رئيسًا، فميزانيته الجديدة ستواجه أكبر عجز في تاريخ الولايات المتحدة. ليس الشعب الأميركي متحمسًا لانخراط مزيد في الأزمة السورية، وترمب يعرف في قرارة نفسه أنه ينظر إلى سوريا فيرى أن لروسيا وإيران وتركيا قوات أكثر، وتأثيرا ميدانيا أكبر، ولا يمكنه تغيير ميزان القوى.
إلى ذلك، يريد ترمب أن يقول لشعبه الأميركي إنه هزم تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، فانتهت المهمة، وعلى الولايات المتحدة مغادرة الميدان السوري. لا يريد ترمب أن تكون القضية السورية حربه في انتخابات نوفمبر، ويبدو أنه سيجتمع بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مايو المقبل، وربما يكون بينهما تفاهم حول سوريا، علمًا أن المشكلة السورية سببت لترمب مشكلة مع تركيا، الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي.
كتب دانيل ديبيتريس، أحد مؤيدي ترمب المحافظين، مقالة في “واشنطن إكزامينير”، قدم فيها خمسة أسباب تفسر ضرورة الخروج الأميركي من الساحة السورية.
في المقام الأول، يخرج هذا القرار الولايات المتحدة من رمال الشرق الأوسط المتحركة: للولايات المتحدة ثلاث مصالح أمنية قومية رئيسية في الشرق الأوسط اليوم: أولها، منع الجماعات الإرهابية من شن هجمات على الأراضي الأميركية والمرافق الأميركية في الخارج؛ والثانية، ضمان عدم هيمنة قوة واحدة على المنطقة، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا؛ والثالثة، الاحتفاظ بعلاقات دبلوماسية بأكبر عدد ممكن من البلدان في سبيل الحفاظ على مرونة شديدة في المواقف السياسية.
إبقاء الجنود الأميركيين في شرق سوريا لدعم عملية انتقال سياسية سورية غير موجودة، أو للعمل حكامًا في نزاع تاريخي بين تركيا والأكراد لا يدخل في نطاق المهمة الأصلية، أي مكافحة داعش. وبحسب ديبيتريس، هذه الأولويات الإضافية مرهقة، الأرجح أن تصرف انتباه الولايات المتحدة عن الانتهاء من الحرب على داعش في وقت يكون فيه هذا التنظيم في أشد حالات اليأس، بعد الضربات المتتالية التي تلقاها.
منع الأزمة
ثانيًا، سيجبر هذا القرار منطقة الشرق الأوسط على حل مشكلاتها بنفسها: كانت السياسة في سوريا، والتي حددها وزير الخارجية السابق ركس تيلرسون قبل شهرين، والتي نقلت الجنود الأميركيين من واجب مكافحة الإرهاب إلى واجب تحقيق الاستقرار المدني، بوابةً لمزيد من التورط الأميركي في هذه القضايا. يقول ديبيتريس في “واشنطن إكزامينير” إن معرفة كيفية قلب الأمور وتمويل حملة إعادة الإعمار بعد انتهاء الصراع وإعادة ادماج ملايين اللاجئين في سوريا عمل مهم يجب أن تقوده شعوب المنطقة بنفسها. هذا القرار حافز لدول الخليج والدول المجاورة لسوريا للتوصل إلى طريقة إقليمية للمضي قدمًا نحو حلول للأزمة.
ثالثًا، سيمنع هذا القرار حدوث أزمة محتملة مع روسيا: كلما طال أمد الوجود الأميركي في سوريا، ارتفع منسوب احتمال وقوع الحوادث مع موسكو، وتحوله إلى حالة طوارئ. فالطيارون الأميركيون والروس تبادلوا الاعتراضات الجوية في مناسبات عدة. وفي إحدى المرات، اقترب الأمر من حصول اصطدام جوي. كما تحدى المرتزقة الروس قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة، ما أدى إلى مقتل العشرات من الروس على الأقل في الميدان. لحسن الحظ، تمكنت واشنطن وموسكو من تفادي أي حادث مؤسف آخر، لكن احتمالات وقوع أي حادث في المستقبل ترتفع بشكل كبير ما دامت القوات الأميركية موجودة على الأرض.
خطوة جيو-سياسية
رابعًا، سيكون القرار خطوة جيو-سياسية ذكية: نال رئيس النظام السوري بشار الأسد جميع المقاصد والأهداف من الحرب ضد خصومه، لكن بتكلفة باهظة للغاية. ستحتاج سوريا إلى 200 مليار دولار في الأقل للبدء في إصلاح عشرات الآلاف المنازل التي دمرت أو تضررت في القتال. وبحسب ديبيتريس، أكثر من نصف سكان سوريا نازحون، وما تبقى من الحكومة السورية في دمشق هو مجموعة من اللصوص والمجرمين.
من خلال استثمار الكثير في بقاء الأسد، أنشأت روسيا دولة عميلة لها في سوريا، تعتمد بالكامل على استمرار الاستثمار الروسي في المستقبل البعيد. لماذا إذًا تقدم الولايات المتحدة هدية لموسكو ببقائها في سوريا ومساعدتها في إعادة إعمار ربما تستغرق جيلًا كاملًا؟ ساعد فلاديمير بوتين والإيرانيون على خراب سوريا، وفلم لا يدفع بوتين والإيرانيون ثمن إعادة إعمارها؟
خامسًا وأخيرًا، سيوفر هذا القرار موارد الولايات المتحدة لما هو أهم: في المخطط الجيو سياسي الكبير ، تعد سوريا ذات فائدة صغيرة. سواء كان الأسد في القصر الرئاسي أم لا، فالولايات المتحدة ستستمر محتفظة بشراكة قوية مع معظم سماسرة الطاقة في الشرق الأوسط. إذًا، يمكن تأطير قرار الخروج من سوريا في حيز “المكسب للجميع”. فهذا ينقذ الولايات المتحدة من ورطة عصية على الحلّ، ويساعد على إعادة تركيز اهتمام واشنطن على التنافسات القوية بين القوى العظمى التي تؤثر على قدرة أميركا على فرض سلطتها في المستقبل.
يختم ديبيتريس مقالته في “واشنطن إكزامينير”: “إذا كانت إدارة ترمب تريد أن تنفق رأس المال في السياسة الخارجية، فعليها أن تفعل ذلك من أجل الحفاظ على نظام مواتٍ للتحالفات في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لا أن تتورط في مستنقع شرق أوسطي آخر”.