صادمةً كانت انتخابات «عراق ما بعد داعش»، لنسبة الاقتراع المتدنية من جهة (44%) ، وتصدّر تحالف «سائرون» (المدعوم من مقتدى الصدر) من جهةٍ أخرى. قبل الحديث عن توزيع المقاعد، والذي لم يحسم بعد، تظهر النتائج الأوليّة التي أعلنتها «مفوضية الانتخابات» أمس، صعود كتلٍ جديدة إلى المشهد السياسي، وتثبيت أخرى كـ«رقمٍ صعب» يوجب الوقوف عنده. مقتدى الصدر، أثبت أنّه الأوّل في «البيت الشيعي»، أما الكيان السياسي الجديد المشكّل من فصائل «الحشد الشعبي» فيدل على أن هناك بيئةً حاضنةً لهؤلاء، بالرغم من كل محاولات التشويه، خاصّةً أنّه حلّ في المركز الثاني. حيدر العبادي، رئيس الوزراء حلّ ثالثاً، مخيّباً توقعاتٍ بأنه سيكون الأوّل، أما نوري المالكي فقد كان أكبر الخاسرين، فيما حافظ عمار الحكيم على حضوره تاركاً «المجلس الأعلى» في خسارةٍ كبرى، هو الآخر
حملت الانتخابات البرلمانية العراقية، التي أُجريت أول من أمس، مفاجآت عدة، سواء لناحية حجم المشاركة الشعبية فيها، أو لناحية النتائج التي أسفرت عنها، والتي أعلنت جزءاً ذا دلالة منها المفوضية العليا للانتخابات في ساعة متأخرة من مساء أمس. ولعلّ أهم ما كشفت عنه تلك النتائج هو ثلاثة مؤشرات رئيسة: أولها تراجع الشخصيات التقليدية أو ما يُطلق عليه «الحرس القديم» من مثل رئيس «ائتلاف دولة القانون» نوري المالكي (نحو 25 مقعداً) ورئيس «ائتلاف الوطنية» إياد علاوي. وثانيها، تراجع رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي عن المرتبة التي كانت متوقّعة لائتلافه «النصر» بفعل تقدم منافِسيه غير التقليديين عليه، على الرغم من أن عدد المقاعد التي سيحوزها هذا الائتلاف يظلّ مرهوناً بالنتائج النهائية التي تشمل 9 محافظات لم يعلن عن حصيلة التصويت فيها أمس (بحسب النتائج الجزئية ينال ائتلاف العبادي 45 مقعداً)، إلا أن حلول «النصر» في المرتبة الخامسة في محافظة بغداد التي يُخصّص لها 71 مقعداً (أي ما نسبته 20% من إجماليّ مقاعد البرلمان) يُعدّ مؤشراً مهماً لا يمكن القفز عليه.
أما ثالث تلك المؤشرات، فهو تقدم ائتلاف «الفتح» الذي يقوده زعيم منظمة «بدر» هادي العامري في عدد لا يُستهان به من المحافظات، مُحتلّاً المرتبة الأولى في ما لا يقلّ عن ثلاث منها والثانية في معظم البقية، ما يجيز التوقّع بأن ينال هذا الائتلاف الذي انخرطت فيه معظم قيادات «الحشد الشعبي» حصّة وازنة في البرلمان (قرابة 45 مقعداً بناءً على النتائج الجزئية). وفي آخر الدلائل التي حملتها النتائج الجزئية، يأتي تصدر ائتلاف «سائرون»، المدعوم من زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر، واحتلاله المرتبة الأولى في عدد لا يُستهان به من المحافظات، ليشكّل مفاجأة ستكون لها تبعاتها حتماً على مشهد ما بعد الانتخابات، وخصوصاً أن التقديرات الأولية تشير إلى نيل «سائرون» 55 مقعداً، ما سيمنحه كلمة في المعركة المرتقبة على رئاسة الوزراء.
تراجع الشخصيات التقليدية أو ما يُطلق عليه «الحرس القديم»
وإلى جانب النتائج «غير المحسوبة»، جاء معدل التصويت مخيباً للآمال، على الرغم مما خطّط لهذه الانتخابات حتى تكون تتويجاً لخلاص العراقيين من «صفحة الإرهاب»، واحتفالاً وطنياً بـ«النصر على تنظيم داعش». إذ إنه، بحسب «مفوضية الانتخابات»، بلغ معدّل الاقتراع 44.5%، أي أن حوالى 9 ملايين فقط من أصل 24 مليون ناخب شاركوا في عملية الاقتراع أول من أمس. نتائج دراماتيكية تعاضدت أسباب عديدة لتضع «عراق ما بعد داعش» في مواجهتها، يمكن تخليصها بالآتي:
ـــ ضبابية المرجعية: طوال شهر الدعاية الانتخابية، عملت ماكينات سياسية على إحباط الناخب العراقي، ولا سيّما في المحافظات الجنوبية، عبر شن «حملة تسقيط» واسعة النطاق، نجحت بالمحصلة في زعزعة ثقة الناخب بجدوى الاقتراع، وإمكانية التغيير عبر الصناديق. وتماهت هذه الحملة مع حملات وجهتها وسائل إعلام عربية وأجنبية، ضد القوائم المقربة من «الحشد الشعبي»، مستعينة بمواقف سابقة أطلقتها المرجعية الدينية في النجف، والتي دعت فيها إلى «عدم تجريب المجرب». حاولت هذه الحملات التأثير على المرجعية، ودفعها إلى إصدار موقفٍ واضحٍ تمنع بموجبه انخراط قادة «الحشد» في الانتخابات، في وقتٍ سوّقت فيه وسائل إعلامٍ عربية لإمكانية إصدار النجف موقفاً تحظر من خلاله انتخاب قائمة «الفتح».
موقف المرجعية الأخير لم يكن واضحاً بما يكفي، كما اعتاد أن يكون في الأعوام الماضية، في حثّها الناخبين على المشاركة في الاقتراع. ورغم محاولة ممثلي المرجعية عبد المهدي الكربلائي وأحمد الصافي تبديد الشكوك وإنهاء التردد، عبر مشاركتهما الشخصيتين في الاقتراع، إلا أن ذلك لم يساعد على رفع نسبة المشاركة في المحافظات الجنوبية أكثر من 45%.
ــ الفرز الإلكتروني: لأوّل مرّةٍ في تاريخ العراق، يتم إدخال ماكينات العدّ والفرز الإلكتروني، والتي استعملت في الاقتراع الأخير. هذه الآلية الحديثة، كانت أحد أبرز الأسباب في انخفاض معدلات المقترعين. وبالإضافة إلى تعقيد عمل هذه الأجهزة، وإخفاقها يوم الاقتراع، فإن عملها هو الآخر لم يكن شفافاً إلى الحدّ الذي تمنع معه أحاديث الكواليس عن تلاعب إلكتروني بنتائج الانتخابات، والتي تم نقلها عبر قمر اصطناعي من مراكز الاقتراع في المحافظات إلى المركز الوطني في بغداد. فلم يتح الوقت الكافي لـ«المفوضية» حتى تطمئن العراقيين إلى طبيعة عمل هذه الأجهزة، وفاعليتها في حماية سريّة الاقتراع، والحفاظ على النتائج من التلاعب إلكترونياً.
أما أداء طواقم «المفوضية»، والتي نشرت أكثر من 300 ألف مشرفٍ على 60 ألف محطة اقتراع في عموم العراق، فكان مرتبكاً وغير مقنع، لجهة التغييرات الكبيرة والسريعة التي أجريت على هيكليتها خلال فترة قصيرة امتدت من آذار الماضي. هذا ما جعل الناخبين أمام طاقم متحزّبٍ قليل الخبرة، لم يتلقّ قدراً كافياً من التدريب على إدارة الاقتراع الإلكتروني.
كل ما تقدم، جعل أغلب القوائم الانتخابية تشكك بحقيقة الأصوات التي حصلت عليها، متعكزة بذلك على انعدام الشفافية في إجراءات «المفوضية»، والتي لم تقدم إجاباتٍ واضحة لمخاوف ما قبل الاقتراع، ولم تعالج شكاوى ساعات اليوم الانتخابي، والتي شهدت خروقات واسعة ستتكشّف خلال الأيام المقبلة.
خريطة معقدة
في ظل التطورات الدراماتيكية التي أفرزتها النتائج الأولية لانتخابات البرلمان العراقي، فإن المؤشرات تشير إلى تشكّل خريطة سياسية معقّدة، قوامها كتل ذات أجنداتٍ متقاطعة ومتصادمة، في ظروف حرجة يمر بها العراق والمنطقة. خلافاً للدورات السابقة، والتي أدت «القوى الشيعية» خلالها دور «قطب الرحى» في بناء التحالفات أولاً، وتشكيل الحكومات ثانياً؛ فإن وضعها الراهن جعلها تواجه اختباراً عسيراً، ولا سيما في ظل تعرّض شرعيتها لتآكل ملحوظ، على ضوء تدنّي نسب المشاركة بين جمهورها.
لكن القوى الشيعية ليست بأفضل حالٍ من القوى السُنّية والكردية. فالتشظي والتنافس الحادّ، وافتقارها إلى رؤيةٍ موحّدةٍ وتراجع دور قياداتها الكارزماتية بات واقعاً يخيّم على هذه القوائم، ما سيضيف تعقيداً آخر في طريق تشكيل الحكومة المقبلة. هنا يبرز العامل الخارجي، الأميركي – الإيراني، والذي سيكون حاسماً ومؤثراً في خفض سقف توقعات الجميع، وإعادة ترتيب الاصطفافات بالشكل الذي يمنع تعريض العراق، الخارج لتوّه من مخاض «داعش»، الى هزّاتٍ سياسية عنيفة قد تعيده إلى «ما بعد انتخابات 2014» والتي انتهت، بعد شهرين فقط من إجرائها، باجتياح «داعش» الى مناطق واسعة من أراضيه.