كان أحدُنا يعرف الآخر من لهجته، ومن نغمة حديثه. ولم يكن هذا مصدر استغراب، أو اشمئزاز، أو أيٍّ من المصادر السلبية. على العكس، كان ذلك مصدر تقارُب وتعارُف أكثر فيما بيننا. والكلمات التي لا تُفهم، نشرحها لبعضنا بعضًا.
في المدينة الواحدة هناك أكثر من لهجة، أو على الأقلِّ اختلافات في اللفظ، أو إضافات قليلة. وفي بغداد كانت تُسمع أكثر من لهجة في آن واحد، خاصة في “الباصات” والأماكن العامة، لكنها اليوم شِبْهُ مَعدومة. للبغداديين لهجة خاصة، وربما هي أشهَر اللهجات، إلّا أنها بدأت تندثر أيضًا، وربما لا ينطقها إلّا الذين ما زالوا متمسِّكين بها من كبار السن.
اللهجة هُويّة. فهي ليست أقلَّ أهميَّةً من الانتماء الديني أو القومي أو المذهبي. فهناك مَن يعتبرها هُويَّته التي يُعرِّف بها نفسه أمام الآخرين، ويرى فيها علامة إيجابية في شخصيته، خاصة في المجتمعات المتعددة. وتَنقل قناة “bbc العربية” عن كاثرين كينزلر -وهي باحثة أجرت أبحاثًا عن اللهجات- قولَها: “إن اللهجات لم تحْظَ بدراسة كافية، مع ارتباطها بالهوية ارتباطًا لا يقلُّ عن صلة النوع أو العِرق”.
لعبَت الحروب في العراق، وعمليات التهجير والنزوح القسري، والتغيّر المكاني لأعداد كبيرة من العراقيين خلال السنوات الماضية، أدوارًا سلبية في غياب اللهجات العراقية أو في تغييبها. فإذا ما أردتَ أن تسمع لهجة ما، فعليك زيارة المناطق الأساسية للناطقين بها. وأكثر لهجة يمكننا القول إنها بدأت تنقرض، هي اللهجة المصلاوية، هذه اللهجة التي من الصعب أن يفهمها العراقي مباشرة. إلّا أن الحرب وعمليات النزوح تهدِّدها الآن. فقَبْل أيام نشطَت مجموعة من شباب المَوصِل على “السوشيال ميديا”، من أجل إحياء اللهجة المصلاوية، حيث طلب الشباب إجراء تَحدٍّ، لتذكير الناس ببعض المفردات المصلاوية، لأنهم كانوا يَخشون أن “تندثر” لهجتهم. فهي لم تَعُد متداولة كثيرًا في الأحاديث بين سكان نينوى؛ إذ عادةً ما يجري الحديث باللهجة العراقية العامة.
هذا الحال ينطبق على بقية اللهجات. فهي تَنشط في مناطقها فحسب، لكنها لم تَعُد مسموعة أو منطوقًا بها في المدن الأخرى، وتحديدًا في العاصمة بغداد، التي صارت وكأنها مدينة ينطق سكانها بلهجة واحدة عامة، حتى إن البغدادية الأصلية بدأت تغيب.
واحدٌ من أسباب تغييب اللهجات العراقية، هو الإعلام العراقي. فالدِّراما، والأغاني، والبرامج، كانت تُذاع كلُّها بلهجة واحدة عامة. لذا، بدأت تَغيب عن مسامع البصراوي اللهجة المصلاوية، وعن الأنباري اللهجة النجفية، وعن العمارتلي اللهجة التكريتية.
في الحرب الطائفية 2006 – 2007، كانت تعتمد بعضُ الجماعات الإرهابَية عبر نقاط التفتيش الوهمية التي تَنصبها في بغداد. ومن خلال لهجة الأشخاص، تتعرَّف إلى أيِّ مذهب يَنتمون. كانت تلك السَّيطرات تسأل عن كلمات فيها حروف معيّنة، يختلف العراقيُّون عادةً في طريقة نطقها. وبذلك، تَعرف الأشخاص وانتماءاتهم. لذا، هي واحدة من أسباب غيابها أو تغييبها.
لدينا جيل غابت عنه كلمات عراقية قديمة، وتَغيب عنه الآن كلمات أخرى في جنوب العراق وشماله وغربه وشرقه. لا تَعرف آذانُنا الآن التعددية في اللهجات، ولا ألسنتنا تَعوَّدَتها. وهذا دليل خطير، على فقدان واحد من مصادر التنوع والتعددية في العراق. فاللهجات العراقية زاخرة بالمفردات العربية وغير العربية، ومفرداتٍ من الحضارتَيْن البابلية والآشورية القديمتَين، ومفردات أخرى عثمانية، وأخرى إنكليزية، وأخرى فارسية. كلُّ هذا التنوع قد لا يكون موجودًا بعد عقد من الزمن. ففقدانه صار سهلًا وغير ملاحَظٍ لكثيرين. ومع أنّ حديثنا هو بلهجة عامة واحدة، إلّا أن لهجاتنا الفرعية مُفيدة أيضًا.
هذه دعوة إلى الحفاظ على اللهجات العراقية، وإلى أن نعُود نتحدث بلهجاتنا فيما بيننا بشكل طبيعي، وأن نتعرّف إلى بعضنا من خلالها. ففي الوقت الذي تعمل فيه دول على تعريف الناس بتراثهم، وجعْلِهم يعتزُّون به، ومن ضِمنه اللهجات؛ بدأنا نحن في ظلِّ التعددية الكبيرة التي نعيشها، نَفقد واحدًا من مصادر التنوع.