ماتت الدولة التقليدية شرقياً،.. هذا ما تعيد تأكيده التطورات الأخيرة في السوادن والجزائر، وقبلهما العديد من دول المنطقة،.. فهي بين موت كلي لنظامها السياسي بفعل حركات الثورة والعصيان والتمرد الداخلي، وبين موت/التغيير الذي يجريه قادتها على طبيعتها ونظامها وهويتها،.. فلم تعد صالحة للحياة، والعمل جار لإعادة إنتاجها.
• موت وولادة دول،.. هذا هو العصر الجديد الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط، عصر يحمل من المتغيرات الجوهرية ما سيطال بنى المجتمعات الشرقية في جوانبها السياسية والمجتمعية والإقتصادية والثقافية كافة، وسيغير من بنية الدولة التقليدية التي قامت منذ بواكير القرن التاسع عشر الميلادي. فرياح التغيير شملت وستشمل دول المنطقة بأسرها، وسيعبّر هذا التغيير عن نفسه بانقلاب شامل أو جزئي لأسس ومعايير وإدارة هذه الدولة أو تلك، فقد انهارت أنظمة بشكل كلي، وتسعى أنظمة أخرى لإعادة إنتاج داخلها السياسي والإجتماعي والإقتصادي.. للخروج بأقل الخسائر الممكنة.
• قد تفلح قيادات بعض الدول بإجراء تغييرات جذرية حقيقية تلبي طموحاً مقبولاً لمعايير الدولة الوطنية والحكم الرشيد مما سيقلل من خطر تداعي النظام العام ووحدة الدول وسلامة مجتمعاتها،.. إلاّ أنَّ الفشل ما زال قائما بتخطي أزمة الدولة هنا وهناك، بفعل حدة انقسام أمم الدول إلى هويات مجتمعية فرعية متحاربة، وبفعل غياب البديل الوطني الناضج والقادر على شغل الفراغ بدل الإتجاهات المتطرفة، وبفعل الفشل التنموي وعدم التأهيل المجتمعي السياسي والثقافي الذي قاد إلى العدمية، وبفعل فشل تمكين القيادات المؤهلة، وبفعل صراع الأجندات الكبرى إقليمياً دولياً.
• بموت الدولة انكشفت تناقضات أمتها الوطنية، وهذا هو وصف المشهد الحالي لأمم الشرق الأوسط،.. لقد انبعثت جميع القوميات والطوائف والإثنيات والإيديولوجيات لتعبر عن نفسها وخصوصياتها ورؤيتها وإرادتها، في مشهد يسوده الخلاف البنيوي والصراع الدموي تجاه جميع قضايا الدولة المراد إعادة إنتاجها. وهو أمر طبيعي إلاّ أنه غير صحي، فهو طبيعي لأنَّ مشروع الدولة التقليدية حطم وحدة أمّة الدولة وفشل ببنائها وفق معايير المواطنة والمشاركة والتنمية وأبقاها تقليدية غير مؤهلة. وهو غير صحي كونه يجري وسط تناقضات مجتمعية اقتصادية ثقافية حادة وصراع هويات غريزي واحتراب مصالح كوني.
• أمم الشرق الأوسط اليوم تمر بمرحلة اكتشاف وبناء الذات، إلاّ أنه إكتشاف وبناء في لحظة مرضية قلقة خطرة ومصيرية،.. فهي لحظة تاريخية مريضة لأنّ المجتمعات تمارس الإكتشاف من موقع الذات العرقية الطائفية الإثنية السياسية المتضخمة والمندفعة بجنون للتعبير عن الخصوصية والمصلحة بعد عقود التمييز والقهر والحرمان. وهي لحظة قلقة لا يمكن التأسيس عليها لتشظيها واستلابها وانفعالها بغريزتها العاطفية المطلبية غير المعقلنة، وهي خطرة كونها موهمة وإلغائية تحول دون اكتشاف المشترك الوطني والمصالح الكلية لإعادة بناء الدولة من جديد، وهي مصيرية كونها تأسيسية وتجري وسط توظيف مصالحي تآمري إقليمي دولي.
• دول الشرق الأوسط تعيش المخاض، فإما أن تلد دول وطنية موحدة عادلة ناجحة، وأما أن تفترسها دويلات عرقية وإمارات طائفية وكيانات إثنية لتشكل خرائط سيادية جديدة، وأما أن تعيد إنتاج الفشل باعادة إنتاج أنظمتها القديمة، وأما أن تبقى تعيش الصراع والفوضى والفساد والإستلاب،.. ولقواها ونخبها ومجتمعاتها الخيار، وعليها الإختيار.
بقلم :حسين العادلي