مصطفى سعدون (العراق)
في مدينة المَوصِل، التي تَحرَّرَت قبل عام ونصف من حرب مُدمِّرة شَنَّها تنظيم “داعش”، هناك أسباب أخرى للموت فيها. فالحرب ليست وحدها ما تؤدِّي إليه؛ إذ في أوقات السلم تُحصد الأرواح أيضًا. فمثلًا، قبل عدّة أيام، غَرقَت عبَّارة كانت تُقلُّ أكثر من 200 شخص، في حين سَعَتُها الحقيقية لا تتجاوز الخمسين. راح ضحيَّتَها 100 مدنيٍّ تقريبًا، وبقيت العشرات من الجثث مفقودة حتى الآن. وعلى إثر تلك الحادثة، بدأت أطراف سياسية بتوظيف المصيبة لأغراض صراعاتها مع بعضها بعضًا. فنَسُوا الغَرْقى من الناس، وبقيت صراعاتهم.
تتلخص قصة حادثة العبَّارة الآن، بصراع سياسي، يَنتظر فيه الجميع من سيفوز به. ولكن، يبدو أن الذين ينتظرون من سيُنصف الضحايا، عدَدُهم أقلُّ بكثير من أعداد المتصارعين. إنّ واحدةً من آليَّات التشتيت الفكري والمعلوماتي في العراق، هي التصعيد السياسي واختلاق الأزمات السياسية، لينسى الناس مصيبتهم الأساسية. ومِن أمثلة استغلال الحادثة سياسيًّا، اتِّهام بعض كُتلٍ سياسية خُصومَها بأنهم يقفون وراء الحادثة، ثم يقوم الخُصوم بردِّ الاتِّهامات.
واحدةٌ من أسوأ اللحظات التي يمكن أن يعيشها الإنسان العراقي، هي لحظة استغلال القضايا الإنسانية لأغراض سياسية. وهذا ما سار عليه النظام السياسي الحالي، منذ عام 2003 حتى الآن. فقد وُظِّفت مُصيبة المَوصل من أجل صراع ونفوذ في المدينة بين أحزاب متقاتلة، وكسْبِ ما يُمكن أن يأتي للمدينة من أموال ومِنح ومشاريع. فراحت تُحمِّل بعضها بعضًا مسؤولية غرق العبّارة.
الغريب أن أطرافًا قد تكون بعيدة عن الحادثة، لكنها حُمِّلَت المسؤولية أيضًا. فنجد اليوم عشرات المُتَّهمين بهذه القضية، لكن لا أحد ثبتت إدانته؛ ليس لأنهم أبرياء، بل لأن لا تحقيقات جِدِّيّة في الأمر. ففي لحظة جوهرية، شهدت فيها الموصل أهمَّ حدث عند تحريرها من “داعش”، لم تَظهر قوة الدولة التي يجب أن تَظهر، ولم نرَ أن القانون أعلى من الجميع، بل الجميع أعلى منه. يُخيَّل لك وأنت ترى أعداد العسكر الكبيرة في شوارع الموصل، أن لا أحد يفلت من عقاب إذا ما ارتكب أيَّ مخالفة. لكن الحقيقة عكس ذلك.
على جانب من جانبَي نهر دجلة حيث الفاجعة، تَنْحب أمهات الضحايا، حتى اللاتي لم يَفْقدن أيًّا من أبنائهنّ في هذه الحادثة. صِرْن يبكين ويلطمن، ويَدْعُون إلى العثور على مَن جرف الماء جثثهم. في الجانب الثاني من الكارثة، هناك مَن حضّر قُوَاه الإعلامية في التلفزيون والسوشيال ميديا، وكأنه كان ينتظر هذه المأساة لاستغلالها. فكان على جانبَي النهر ضحيّة وجلّاد، بينهما مياه جرفت من لم تأخذه الحرب. وفي المَوصل، مَن لم يُقتل بالحرب، يُقتل بالفساد، ويُقتل بالصراع السياسي، ويُقتل باللامبالاة. الموت واحد هناك، لكن أسبابه تعدَّدَت.
البعيدون عن الموصل جغرافيًّا، يَعرفون كلَّ شيء من خلال الأخبار في وسائل الإعلام المتعددة. لذا، دخلوا مرحلة التضليل. صُوَرٌ فُبْركَت، ومقاطع فيديو قُطِعَت، ونُشرت أخبار ومعلومات غير مؤكَّدة، وصار الناس لا يَعرفون الحقيقة. فتغييب الحقيقة، واحدٌ من آليَّات تجهيل المجتمع، وإبقاء الضحايا دون إنصاف، والجُناة دون عقاب. فحادثة مثل تلك التي شهدتها الموصل، يُمكنها أن تُحدث تغييرًا سياسيًا، لكنها في العراق قد تَزيد رصيد أحزاب على أخرى، ماليًّا وشعبيًّا، خاصة إذا ما أحسنوا استغلالها بتجييش الإعلام.
مع بدء استغلال الحادثة، نسِيَت أغلب وسائل الإعلام العراقية الحادثة الرئيسية، وراحت تنشغل باستضافة المتصارعين على المشاريع والصفقات في المدينة المُدمَّرة، في حين أُغْفِلَت القصة الإنسانية لما حدث، وكيف تعيش عوائل الضحايا، وأين جثث المفقودين حاليًّا! قصة الموصل استمرت في حزنها ومأساتها، منذ دخول “داعش”. والسؤال الأهم الآن: “هل تكون الحكومة قادرة على أن تَفرض سلطة القانون، وأن تَمنع نفوذ الأحزاب السياسية في مؤسسات الدولة؟”.
مرّ أسبوع على الحادثة، التي اتَّشح فيها المَوصل والعراق بحزنهما، ولكن من دون أن تُظهر التحقيقات مَن المتسبِّب الرئيسي بها. وبقيت القضية تُستغلُّ سياسيًّا، في وقتٍ تَدفن فيه أمّهاتٌ أولادهنّ، وزوجات ينتظرن جثث أزواجهن، وأطفال لم يَعُودوا يذهبون إلى المدارس.