الخوف المرضي وصناعة الاستبداد

    الاستبداد صناعة يقف وراءها الخوف الناتج عن القهر والقسر بالقوة أو بوسائل وأساليب أخرى كالابتزاز والتهديد وما ماثل ذلك، وقبل الخوض في الوشائج الرابطة بين الخوف والاستبداد، لابد أن نمرّ على تفسيرهما اللغوي والفعلي، فالاستبداد في القاموس العربي الإسلامي “يعني الحزم وعدم التردد في اتخاذ القرار وتنفيذه، ومن هنا جاءت عبارة: إنما العاجز من لا يستبد، هذا هو معنى الاستبداد عندما يُقرَن بالعدل الذي يفقد فعاليته مع العجز عن تطبيقه، أما الاستبداد من دون عدل فهذا هو “الطغيان”.

    أما في التعريف الغربي فكلمة المستبد (despot) مشتقة من الكلمة اليونانية “ديسبوتيس” التي تعني رب الأسرة، أو سيد المنزل، ثم خرجت من هذا النطاق الأسري، إلى عالم السياسة لكي تطلق على نمط من أنماط الحكم الملكي المطلق الذي تكون فيه سلطة الملك على رعاياه ممثلة لسلطة الأب على أبنائه في الأسرة، وهنا يصبح المعنى انفراد فرد أو مجموعة من الأفراد بالحكم أو السلطة المطلقة دون الخضوع لقانون أو قاعدة، ودون النظر إلى رأي المحكومين.

    وتشير التبريرات النفسية والسلوكية إلى أن الخوف هو الذي يصنع المستبد، فالخوف هو الشعور الناجم عن الخطر أو التهديد المتصوَّر أو المتوقَّع، ويحدث في أنواع معينة من الكائنات الحية، ويقوم بدوره بالتسبب في تغير بعض الوظائف الأيضية والعضوية ويفضي في نهاية المطاف إلى تغيير في السلوك، مثل الهروب، الاختباء، أو التجمد تجاه الأحداث المؤلمة التي يتصور الإنسان وقوعها، وقد يحدث الخوف في البشر ردا على تحفيز معين يحدث في الوقت الحاضر، أو تحسّباً كتوقع وجود تهديد محتمل في المستقبل.

    وتنشأ استجابة الخوف من تصوّر أو توقّع بوجود خطر ما، مما يؤدي إلى اتخاذ قرار المواجهة معه أو الهروب منه وتجنبه، وهذه الاستجابة التي تحدث في الحالات القصوى من الخوف، كالرعب والإرهاب يمكن أن تؤدي إلي التجمد أو الشلل.

    اقترح علماء النفس مثل جون واطسون، روبرت بولتشك، وبول أيكمن أن هناك مجموعة صغيرة من العواطف الأساسية أو الفطرية وأن الخوف أحد هذه العواطف، وتشمل هذه المجموعة المفترضة مشاعر أخرى مثل تفاعل حاد للكرب، الغضب، القلق، الخوف، الرعب، الفرح، الذعر، والحزن، ويرتبط الخوف ارتباطا وثيقا بالتوتر، ولكن ينبغي أن يفرق بين الخوف والتوتر، والذي يحدث نتيجة التهديدات التي يُنظر إليها على أنها لا يمكن السيطرة عليها أو لا يمكن تجنبها، وتخدم استجابة الخوف غريزة البقاء على قيد الحياة عن طريق توليد الاستجابات السلوكية المناسبة.

    ولكن قد ينعكس الخوف من حافظ للحياة إلى مستعبِد لها حين يكون سببا أو مبررا للخضوع إلى سلطة قاهرة، هنا يصبح الخوف حاجز بوجه حرية الإنسان وحقوقه، وبالتالي يصبح مانعا لتطور الفرد والمجتمع بسبب اضمحلال القيم المستَبدَلة بقيم يفرضها الاستبداد بالقوة وفق سياسة الخضوع للأمر الواقع.

    من الأسباب المثيرة للجدل خوف الناس وامتناعها عن إعلان معارضتها للمستبد حاكما كان أو مجموعة أفراد (حزب) ينفردون بالسلطة، ويرعبون الناس بالقوة وينتهكون حقوقهم وحرياتهم لكي يضمنوا حماية السلطة والتنعّم غير المشروع بامتيازاتها، هنا قد يكون الخوف قطيعياً أو جمعياً، فالمجتمع كلّه ربما يخضع للحاكم المستبد كي لا يتلقّى تداعيات الفوضى، وهذه السياسة غالبا ما يستخدمها الحكام الطغاة والأنظمة المستبدة لإخافة الناس من إشاعة الفوضى في حال تصدوا للحاكم، وهذا النوع من الخوف ليس غريزيا أو طبيعيا، بل هو خوف مفروض من الحكام والأنظمة الدكتاتورية حمايةً لعروشها الاستبدادية.

    يتّضح مما تقدم في أعلاه أن الخوف (غير الغريزي) يعدّ من أقوى العوامل المساعدة على خضوع الإنسان بالقوة، والقبول بانتهاك حقوقه وحرياته خارج إطار قواعد (العقد الاجتماعي) التي تلزم المحكوم بالتنازل عن نسبة محددة من حرياته مقابل الأمن والعيش الجماعي، كما تلزم الحاكم بتوفير الخدمات وإدارة الثروات وفق صلاحيات يحددها دستور دائم تتصدّره شرعية السلطة عبر انتخابات حرة نزيهة تفوض الحاكم وحكومته بإدارة الدولة، ولا تسمح بانتهاك الحقوق والحريات في الدول المُدارة بنظام سياسي ديمقراطي.

    وفي حال تنصّل الحاكم من قواعد العقد الاجتماعي، سوف يتحول إلى مستبد يعتمد التخويف والإرهاب أساليب لحماية كرسيّه، ولكن هناك أقوال مأثورة تركّز على أن الخضوع للمستبد نوع من أنواع الخيانة للذات، فإذا آمن الإنسان بأن مواجهة الحاكم الطاغية يستحق التضحية بأنفس الممتلكات وأغلاها بما في ذلك (النفس)، عند هذه النقطة سيكون التغيير حتميا لصالح المجتمع.

    هذا يعني أن الفرد والمجتمع مسؤول عن التفريق بين الخوف الطبيعي (كالخوف من الكوارث والغرق والقتل والحوادث التي تهدد حياته)، وبين الخوف المفروض عليه بالقوة والبطش الصادر عن حاكم وحكومة قائمة على الطراز الاستبدادي القاهر، والأمر الصحيح هو أن تنعكس معادلة الخوف وتتحول من تحوّط المجتمع واحترازه من السلطة الجائرة، إلى خوف الحاكم وحكومته ومنظومته السياسية من ثورة الشعب إذا كانت تلك الحكومة مستبدة وفاسدة.

    النتيجة المستخلصة، يجب أن يعي الفرد وبالتالي المجتمع كله، بأن الخوف الغريزي هو وحده المبرر، لأنه سوف يحمي الإنسان ويحافظ على حياته ويمنحها الديمومة اللازمة، أما الخوف المفروض بالقوة والقسر سياسي أو سواه، فيجب أن يتخلص منه الفرد والمجتمع من أجل التغيير وتطوير الحياة وصيانة الحقوق، ولابد أن تنتشر ثقافة السلوك الرافض للبطش والقهر والفساد، وعدم الانسياق إلى ظاهرة تخويف الناس من الفوضى في حال الاحتجاج على الحاكم المستبد والحكومة الفاسدة، ودوام إعلان التضحية بكل شيء بما في ذلك (الروح)، لإشعار السلطة الفاسدة بأنها تواجه خطر الإزالة في حال استمرارها بالطغيان والفساد.

    شاركـنـا !
    
    التعليقات مغلقة.
    أخبار الساعة