هل يستطيع العالم فعلاً التخلص من كل أشكال العبودية؟ سؤالٌ للآن يسبب القلق والأرق؛ بسبب تزايد التطبيقات الفعلية للاستعباد حتى غدت ثقافة تتبنى التخفيف من قسوة المفردة، أو إضفاء صبغة عصرية أو حضارية عليها، بعد تغييب الصور التقليدية للعبودية، ومفهوم الرق القائم على استعباد الإنسان لنظيره. لم تعد العبودية في عالم اليوم تعني أن يباع العبيد الضعفاء في الأسواق، أو عبودية التفوق اللوني للجنس البشري كما في صراع ذوي البشرة البيضاء مع السوداء. العبودية اليوم صارت خاضعة لمقاييس مفاهيمية تتعلق بالايديولوجيا وصراع الأفكار وتبنيها لدرجة التسليم بها كحقائق مطلقة ليس لأحد الاقتراب منها، أو تجاوز خطوطها. وكذلك صارت العبودية خاضعة لمنطق يبدو وكأنه تجسيد وهمي لمفهوم (القرية الصغيرة) بعد أن صار الإنسان مستسلماً بشكل شبه كلي إلى سجّانه التواصلي الإلكتروني الذي يتيح له محاورة زميله السجين الآخر الذي يبتعد عنه بمسافات شاسعة بينما هما يقبعان في ذات السجن الإلكتروني. لكنَّ سجناء الإلكترون مستمتعون بعبوديتهم هذه، حيث يوفر لهم السجن الإلكتروني خدمات مجانية تزيد من فصامهم وخدرهم، غير آبهين بما يجري حولهم من أحداث تعصف بإنسانيتهم ووجودهم على كوكب المتناقضات هذا.
لا يريد المستعبدون الإلكترونيون أن يصدِّعوا رؤوسهم مثلاً بمعاناة الفلسطينيين في ظل انتهاك إسرائيلي صارخ ووحشي، ولا يحبون أن يعكروا مزاجهم بشأن أبرياء قُتلوا في مسجد كانوا يؤدون فيه فرائض تتعلق بمعتقداتهم، وليس لهم الاهتمام بمعاناة نازحي الشعوب التي تعرضت لعنف الإرهاب، أو للسيول التي أغرقت منازلهم. عبوديتهم الجديدة منحت لهم غياباً يبعد عنهم كل هذه الصور المأساوية؛ لتدخلهم في مأساة لذيذة لا علاقة لها سوى بفصل الإنسان عن ذاته، وتقوية أواصر علاقات الصداقة بينه وبين أصدقائه المستعبدين بذات الطريقة، والمنتشرين على مساحات كبيرة من الخريطة العالمية.
الـ بوب جي
أكثر أشكال العبودية انتشاراً في الوقت الحالي هي لعبة (بوب جي) الإلكترونية، وهي من الألعاب التي يكون اللاعب فيها مجسداً لشخصية خيالية أو افتراضية، تخوض معركة هي الأخرى افتراضية مع آخرين دخلوا كذلك في شخصيات افتراضية، وهكذا يهيمن الافتراض لدرجة أن (سين) انصهر كلياً بشخصيته المستعارة، وصار يتصرف حتى في بيته وكأنه تلك الشخصية الأخرى بعد توطد العلاقة بين الشخصيتين، ومن ثم الهيمنة المطلقة للشخصية المستعارة على الشخصية الحقيقية، وبذلك يكون الإنسان قد انفصل عن واقعه الحقيقي، ولم تعد له القدرة على التفاعل مع مجتمعه. ويمكن تفهم إقبال المراهقين على مثل هذه الالعاب؛ لأسباب تتعلق بتبدل الأطوار العمرية لهم، لكنَّ الغريب هو أن العبودية الإلكترونية ممثلة بلعبة بوب جي؛ واصلت مراحل تغييب الإنسان حتى في أعمار ينبغي أنها وصلت لمرحلة النضج، بل أن المضحك فعلاً وشر البلية ما يضحك هو السماح للموظفين بممارسة هذه اللعبة لمدة نصف ساعة أثناء الدوام الرسمي كما حدث مع إحدى الدوائر الحكومية في فلسطين كُتب فيها :
“يسمح للموظفين بلعب لعبة بوب جي لمدة نصف ساعة خلال أوقات الدوام” وهنا تكون العبودية قد وصلت إلى الدوائر ومعاملات الناس، ولنتخيل كيف للموظف إنجاز عمله وهو ذائب في شخصيته الافتراضية، بل كيف سيكون سلوكه مع المراجعين إذا كان (مقتولاً) في بوب جي؟!
الفهم الجديد للعبودية
يلزم لنا فهم هذا النوع من العبودية، ودراسته بشكل ينسجم وواقعه الذي يقول أن طور العبودية الإلكتروني هو الأكثر استفحالاً في الواقع الحياتي. وعندما نريد الحد من سلبيات استفحاله ينبغي عدم الاستخفاف بحضوره الكثيف في حياتنا المجتمعية، وأن نتعامل مع العبودية بشكل يختلف عن الفهم التقليدي لها.
لم يعد كافياً أن يجتمع ممثلو الأديان المختلفة في مؤتمر يدعو له بابا الفاتيكان لمناقشة وباء العبودية المتفشي بوصفه معضلة أخلاقية، فالعبودية الجديدة أكبر من قضية حوار أديان، أو التأكيد على عبارات تقليدية يتم الاتفاق ثم التوقيع عليها في بيان مشترك من قبيل: ” وكل العلاقات التي لا تستجيب للقناعة القائلة إن الناس جميعاً سواسية، لهم الحق في الحرية والكرامة، هي جرائم ضد الإنسانية”1
المشكلة أكبر وأعقد حتى مع إيماننا بأهمية الدور الديني، وتأثيره الكبير؛ لأن العبودية الإلكترونية اليوم لا تستهدف التمييز بين دين وآخر فكل معتنقي الديانات المختلفة، بل وحتى اللادينيين هم ضحايا العبودية الإلكترونية.