قد نشاهد تغطية اخبارية في صحيفة (أ) تختلف كليا عن التغطية الاخبارية في صحيفة (ب)، ما يجعل الجمهور والسياسيين يتهمون وسائل الاعلام بنشر الأكاذيب عبر الاخبار والتقارير، حتى ان الكثير منهم يصفون الاشاعات التي تروج ضدهم بانه “كلام جرايد”، لكن ما يجري في الواقع ليس كذباً ولا اصطناع للوقائع بقدر ما هو عملية تجزئة لهذه الوقائع، فالاخبار المنشورة هي حقيقية وغير كاذبة لكنها لا تمثل الحقيقة كاملة، او انها تحمل اراء وتفسيرات من المحرر لها طابع شخصي او مسيسة.
فالخبر الكاذب هو الخبر الذي لا وجود له في ارض الواقع ويقوم المحرر باختلاقه كلياً وترويجه على انه واقعي، ونادراً ما يحدث هذا في وسائل الاعلام، وقد يوجد له الكثير من الأمثلة في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن وسائل الاعلام الرصينة غير معنية به.
اذا فما نشاهده من اختلاف في التغطية الإعلامية ليس كذباً انما شيء اخر، يقوم على حقائق ومن ثم إعادة اصطناعها، بطريقة محترفة تجعلنا نراها بشكل مختلف، تتم هذه العملية عبر عمليتين، الأولى هي الانتقاء، أي اختيار حدث او مجموعة احداث واستبعاد غيرها، وما قد تختاره قناة (أ) قد يختلف عن ما تختاره قناة (ب) لذلك نشاهد اختلافا في التغطية، والثانية، هي التركيز او البروز، عبر النفخ في الحدث وتكبيره ليبدو مهما للجمهور ويستحق المتابعة.
تسمى هذه الممارسات الإعلامية بعملية التأطير، فوسائل الاعلام المحترفة تلتقط الاحداث الحقيقية وتنتقي ما يناسبها، أي انها تقوم بتجزئة الحدث، وتحرفه عن مساره باليات وطرق مختلفة، لان الاحداث لا تكسب معناها، الا من خلال وضعها في اطار محدد، وهذا المفهوم للتغطية الاخبارية يتجاوز سطحية الاعتقاد بان الرسالة الإعلامية يمكن أنْ تكون خالية من القيمة المعيارية فصياغة الأخبار تتاثر بالسياق الاجتماعي والثقافي لمنتج الخبر، والاطار الاخباري يقدم الاحداث وكاننا نقف امام نافذة ولا نرى منها سوى ما يسمح به اطار النافذة، أي اننا لا نرى الحدث بكامله، انما من خلال المساحة التي تسمح لنا بها المؤسسة الإعلامية.
ووظيفة الاطار هي تنظيم المعلومات للجمهور وتقديمها من خلال الحدث الاخباري حيث يساعد في فهم الحدث كما يحدد للجمهور المنظور الذي يرى من خلاله هذا الحدث من خلال تقديم جزء من الواقع والتفاصيل عن القضية وربطها بالحدث كما يؤدي الاطار دورا في ابراز وتحديد محور الاهتمام في الرسالة الاعلامية المتعلقة بحدث او قضية من خلال التكرار والتاكيد على تلك الفكرة المحورية لتفسير القضية بحيث تصبح بدورها اكثر قابلية من غيرها لادراك الجمهور لتلك القضية .فعلى سبيل المثال: الهجوم الانتحاري الذي يقوم به إرهابي يقدمه محرر في احدى القنوات الفضائية على انه استهداف لطائفة معينة، وفي قناة أخرى يقدم على انه مؤامرة كونية على العراق، وفي قناة ثالثة يقدم على انه هجوم مفتعل من قبل بعض الأحزاب من اجل المتاجرة السياسية. اما على مستوى حجم التركيز فقد تستخدم قناة معينة النشرة الإخبارية كاملة لتغطية التفجير في حين تذكره قناة أخرى بخبر قصير وسط النشرة او اخرها.
عملت الولايات المتحدة الامريكية على نظرية تأطير الإعلامي بداية من حرب الخليج الثانية عام 1991، حينما فسرت ما يجري على انه تهديد للامن العالمي، ووضعت العالم امام مهمة التحالف من اجل طرد الجيش العراقي من الكويت، وفي حرب الخليج الثالثة عام 2003 اطرت الحرب على انها حرب ضد محور الشر، وتخليص العالم من ديكتاتور شرير، والقضاء على الأسلحة الكيمياوية، فضلا عن نشر الديمقراطية وتحويل العراق الى جنة شرق أوسطية، في هذه الحرب لم تستخدم عملية التأطير فحسب انما تجاوزتها الى مرحلة الكذب والتزوير.
فمنذ احتلال والعراق وحتى يومنا هذا لم تجد أمريكا ولا غيرها أي قطعة سلاح نووي او كيمياوي في العراق، كل ما هنالك ان وسائل الدعاية الامريكية اختلقت قصصا واكاذيب من اجل تنفيذ مهمة لمصلحتها، وهذا يختلف كليا عن عملية تأطير الاحداث، عبر عمليات الانتقاء والابراز والاستبعاد.
ما يفصل بين الكذب والتاطير الإعلامي ان الأول لا يوجد له ارتباط بالواقع وينكشف بسرعة ما يجعل مهمة تصديقه مررة أخرى عملية صعبة للغاية، وهو ما حدث مع الولايات المتحدة، اما التاطير فهو يقوم على حقائق وادلة وشواهد، لكنها في النهاية ليست كل الشواهد، بل جزء من الحقيقة، وربما جزء صغير منها، وبسبب عملية التركيز هذه يعتقد الناس ان وسائل الاعلام تكذب عليهم