محمد عبد الجبار الشبوط
اصبحت مملةً عبارة “نحن مع المتظاهرين في مطالبهم المشروعة، لان التظاهر حق يكفله الدستور”. في الدول الديمقراطية العريقة والمستقرة لا يحتاجون الى مثل هذه العبارة، لانها بديهية، يعرفها الجميع، ويلتزم بها الجميع. لكن عندنا، حيث الديمقراطية الهشة البدائية، او النظام الهجين التلفيقي، نحتاج هذه العبارة لاغراض دفاعية: دفاعا عن النفس لابعاد تهمة معاداة المتظاهرين، ودفاعا عن المتظاهرين لابعاد شبهة المؤامرة والمندسين عنهم.
لكن ما حدث ليل الجمعة، بعد خطبة المرجعية، اسقط من ايدينا. فما حدث في واسط والناصرية والعمارة وبعض مدن الوسط والجنوب الاخرى، لم يكن تظاهرة، لا سلمية ولا غير سلمية، ولم يكن من اجل مطالب مشروعة ولا غير مشروعة، انما هو انفلات امني و حرب شوارع وصدامات وحشية قاسية فاقت قسوة ووحشية النظام الصدامي، وضاعت معها المطالب المشروعة و”السلمية”، واكدت وجود فريق من الناس لا يمكن ان نضعه في خانة اصحاب المطالب المشروعة والتظاهر السلمي، فرضوا انفسهم على ساحة الحدث الذي غابت عنه اصوات المواطنين اصحاب المطالب المشروعة، كما غاب عنه تأثير السلطات الامنية وقوى فرض القانون.
ومع ذلك، فان ذلك ليس سببا لان نشيح بوجوهنا عن الاسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للتظاهر وهي اسباب يجب معالجتها.
الاصل في النظام الديمقراطي ان المواطن لا يحتاج الى التظاهر الاحتجاجي -الا في حالات نادرة- لوجود مؤسسات دستورية يمكن ان تعبر عن رأيه. نعم يمكن للمواطنين ان يخرجوا الى الشارع في مسيرات نظامية (وليس تظاهرات احتجاجية غاضبة) للتعبير عن رأيهم في قضية بالغة الاهمية كما خرج مليون مواطن بريطاني قبل ايام للتعبير السلمي والهاديء عن رفضهم خروج بلادهم من الاتحاد الاوروبي. الحال لدينا مختلف. فالتظاهرات التي حصلت منذ الاول من تشرين الاول كانت تظاهرات احتجاجية شارك فيها في الاعم الاغلب شباب صغار يشعرون بالحرمان والضياع وعدم الانتماء والخوف من المستقبل. ولم يكن من الممكن اتهام هؤلاء الشباب بانهم بعثيون، لانهم نشأوا في ظل النظام الحالي، كما لا يمكن اتهامهم بانهم مندسون؛ لكن كان احتمال ان يندس بينهم بعثيون او غيرهم واردا، وقد تحقق هذا الاحتمال، والا لما كان للجمهور الغاضب ان ينحرف بالتظاهرات عن مسارها السلمي المطلبي المشروع. وحين تحقق هذا، لم تكن قيادات الجمهور، ولا قوى فرض القانون، حاضرة وفاعلة في بعض الاماكن التي اشرت اليها لحماية التظاهرات من الخروج عن مسارها الاصلي، فوقع المحذور ليسقط شهداء وضحايا ابرياء.
وحين نعود الى اصل التظاهرات وسببها نراه تعود الى فقدان الثقة بين المتظاهرين وبين الدولة. ومع ان هذه ظاهرة ومعروفة و قديمة في المجتمع العراقي وتعود جذورها الى ايام حكم المغول للعراق منذ سقوط بغداد في عام ١٢٥٨، الا ان هذه الظاهرة النفسية-الاجتماعية-السياسية تعمقت في المجتمع العراقي بعد تاسيس الدولة العراقية الحديثة لتتفاقم منذ استيلاء صدام حسين شخصيا على كل مقاليد الامور في الدولة. وكان من المؤمل ان تستعيد الثقة بين المجتمع والدولة حضورها بعد سقوط النظام الدكتاتوري وقيام “النظام الديمقراطي”، الا ان انحراف النظام الجديد عن مساره الديمقراطي منذ تشكيل مجلس الحكم في تموز من عام ٢٠٠٣ اضاع هذه الفرصة. فقد تحولت المحاصصة الحزبية والتوافقية والمكوناتية الى مرتع خصب للفساد المالي والاداري والسياسي، الامر الذي انتج بدوره حكومات غير قادرة على القيام بوظائفها، فتعثر الاعمار والخدمات وفرص العمل، فارتفعت البطالة وتردت الخدمات وفشل النظام التربوي في تنشئة جيل حضاري جديد يكون القاعدة الاجتماعية لحياة سياسية سليمة.