د. نوفل أبو رغيف
لابد من الاعتذار بدءاً ، عما سيردُ من توصيفات وعبارات قد لاتبدو جزءاً من نسق الكتابة الهادئ الذي نحاول اختياره على نحو دائم ، لكنها مساحةٌ يستدعيها المقام وحديثٌ تقتضيه طبيعةُ مخرجات الانفتاح الإعلامي غير الدقيق وغير المنضبط غالباً ، وماتنطوي عليه هذه المساحة صارَ يَعجُّ به المشهد العام فباتَ يفضي إلى فوضى غير مسبوقة ، وكأنما يخيل لبعض الأعضاء ( الغالبية) في كل دورة برلمانية من الطبقتين السياسية والإعلامية ، أنهم في سباق ماراثوني تحت عنوان التدافع الديمقراطي من أجل الحضور الاعلامي ليس إلا ، ساعين الى الدخول والسيطرة المطلقة والتأثير في ساحات الرأي العام وصناعة الرؤى والقناعات والترويج لها ، عبر اصطناعهم أُطُراً منفعلةً تتوسل البهرجةَ سبيلاً في الظهور وتحقيق إبهارٍ متُوهَّمٍ سرعان مايتقهقر ويتوارى بانقضاء لحظته الزمنية ، التي يظن أصحابها خطأً بأنها طويلة الأمد بالغة التأثير ، إذ يرشَحُ من المشهد الإعلامي الحالي ، ومنذ عقد ونصف العقد من عمر التحول الديمقراطي ، كما في المشهدين السياسي والثقافي ، صخبٌ يصل حدَّ الازعاج في أحيان كثيرة يُخيَّلُ لمن يزاوله بأن الحديثَ المنفعلَ قصداً ، واجتذابَ المتلقي عبر الصياح والأداء الخطابي عالي النبرة والزعيق ، وتخوين من يختلفُ بتهمٍ مُعَدَّةٍ يتم استدعاؤها عند الحاجة وإلصاقها بالآخر ، ويمضي الوهم بمن يختار هذا السياق الى أنه سيجعل من أصحابه رقماً مهماً أو صوتاً مؤثراً .
إن اللجوء إلى عباراتٍ قاسيةٍ ومصطلحاتٍ هابطةٍ وألفاظ نابيةٍ وإسقاطات منفلتة ، تعبِّر في أجلى مصاديقها عن ضعفٍ في الحجة وفقرٍ في الدليل ، وتوهمُ من يوردها عبثاً ، بأن ذلك يوفِّرُ له مساحةً تسلط الضوءِ عليه أو تتيح الظهور تحت عناوين الهم الوطني المتعددة ( إدعاءً وزعماً) ممزوجاً بإظهار الحرص والتباكي والتنصل من الحقائق القارّة في الوجدان العام ، ولكنها قطعاً مساحةُ ضوءٍ مؤقتةٌ قد يتلقّى أصحابها إقرارا آنياً من طبقةٍ تشتركُ بالضرورة معه أو مع من يقترحون هذا النوع من الأداء ، ويحاولون توسيعَ رقعته وتشويهَ مساحةٍ أكبر ممن ألف هذا النسقَ من الظهور الذي يثير في الأوساط انتباها وشدّاً آنيين ، وهو بقدر ماينطوي على الجذب والتحريض والفرقعة ، إلا إنه أقرب إلى (التهريج ) منه إلى الأداء الإعلامي المنشود ولذا فإنَهُ سيتحول سريعاً إلى سببٍ للنفور والإعراض ، وسيسهم بفاعليةٍ أعلى في إفساد الذائقة وحرف بوصلة المتحدث عن المهمة الجليلة التي ينبغي أن تكون على رأس الأولويات الوطنية لديه ، وهنا تتضاعف المسؤولية للنخب الثقافية التي توجب عليها مسؤوليتُها الأخلاقية والثقافية أن تُشكِّلَ مصداتٍ قويةً في وجه أيةِ قفزات أو شطحاتٍ تعمدُ إلى نسيانهم قسراً ، أو استغفالهم على نحو ماينحوه هؤلاء .
إنَّ ظاهرةَ الزعيق في الفضائيات والمنابر العامة وفي كل حّيزٍ يمكن أن يشغله هؤلاء صدفةً أو قصداً ، وحجم الشتائم والتنكيل والتعريض وخلط الأوراق من أجل إحداث الصخب والجَلَبَة والالتفات إلى ماهم فيه ، باتت ملمحاً سلبياً يتمظهرُ على سطح المشهد السياسي أكثرَ من سواه (بوصفه سوقاً رائجةً ) في مستوياته المتفاوتة ، ويدعو إلى النفور ويسبب الانزعاج لما يكرسُهُ من احساس بالخيبةِ والاحباط لدى جمهورٍ يعاني أصلاً من قطيعة تتسع بإطراد مع قطاع عريض من الطبقة السياسية (المتآكلة أصلاً ) بأثر إسقاطات عُقدة ثنائيات (الداخل والخارج ) و ( الشباب والشيوخ ) و( التبعية والوطنية ) وغيرها ، إذ بدا كثيرٌ من المحللين السياسيين والإعلاميين يقلدونها بنسخةٍ رديئة .
وبينما تتجهُ النخبةُ الواعيةُ والاصواتُ المطمئنةُ والأقلام المسؤولةُ إلى هجرةٍ أقل ماتوصف بأنها متزايدة من ( الفيس بوك ) إلى وسائل تواصل أُخرى في تضاريس قبيلة (السوشيل ميديا) نحو (الواتساب والانستكرام والتيلجرام والفايبر واللاين والايمو وغيرها ) بحثاً عن مساحةٍ أكثرَ تصالحاً مع آليات الحوار المنتِج المتوازن ، تنسربُ إليها مجدداً (فايروسات) اللغة السلبية وأدوات الزعيق وأمراض الحوار المأزوم ، حاملةً معها هاجسَ البحث عن المناخ المتصالح مع الأفكار وإن كان ضئيلاً، بعيداً عن الشخصنات والتصفيات والإسفاف الذي لايجيد بعضهم سواه .
وهنا يتجدد سؤالٌ دائمُ الحضور حول : ما الذي يدفع بالمرء إلى تجاوز عتباته في التصريح إلى ماهو جانبي لاصلةَ لهُ بالمتن ؟؟ وهل ثمةَ حاجةٌ لذلك ، إذا كان المعنيُّ قادرًا على توفير مناخ يسعفه في تصدير قناعاته التي يتبناها ؟
هل هو ظهور من أجل الظهور فحسب ؟
إنها ظاهرةٌ مؤسفةٌ تجدُرُ ملاحقتها نقدياً وإضعافها عملياً ، بالإعراض عنها تارةً وبتفكيكها قرائياً حين يتاح مناخ هادئ ، تارةً أخرى .