رسالة للأخوة الأكراد
رامي الشاعر
كاتب ومحلل سياسي
كان من الغريب، بل من المدهش بالنسبة لي أن يهاجم بعض الأخوة الأكراد في الشمال والشمال الشرقي السوري الاجتماع الثلاثي الروسي التركي السوري، فقد كنت لزمن طويل أتصور أن الأخوة الأكراد يتفهمون موقف موسكو المبدئي من الأزمة السورية، وتحديدا من قضية الأكراد.
إلا أن ما حدث من سوء فهم، أرجو أن تزول دواعيه وتوابعه في أقرب وقت ممكن، يدفعني دفعا لتوجيه هذه الرسالة حرصا مني، ومن القيادة الروسية بكل تأكيد، على مستقبل قضية الشعب الكردي، واهتماماً مني ومنها بالتوصل إلى وضع خاص للأكراد يؤمن مشاركتهم في عملية الانتقال السياسي السلمي، الذي يضمن لهم حقوقهم في ممارسة عاداتهم وتقاليدهم ولغتهم والحفاظ على ثقافتهم، بل وإدارة المناطق التي يتواجدون فيها بكثافة داخل أراضي الجمهورية العربية السورية الموحدة، دون المساس بوحدة أراضيها وسيادتها.
والهدف من رسالتي، على الرغم من درجة طفيفة من العتاب للأخوة الأكراد، الذين يجمعني بهم مواقف مبدئية، خلال مشاركتي في كافة الاجتماعات الخاصة بهم مع وفودهم المختلفة، هو التوضيح للجميع أن موسكو ملمة بكافة الأمور التي تحيط بالوضع الكردي، وحريصة دائما على استمرار التواصل معهم، والتوصل في نهاية المطاف إلى حل توائمي يرضي جميع الأطراف، على أمل أن يتوقف سيل التصريحات الاستفزازية التي تعرقل جهودنا مع تركيا بخصوصهم، وأن يكونوا أوفياء لروسيا التي تسعى دائماً للقيام بكل ما بوسعها من جهود تجاه الأكراد بشكل خاص، وسوريا بشكل عام.
لقد شكل الاجتماع الثلاثي الروسي التركي لقاءً بناءً بشهادة جميع الأطراف، لا سيما وأنه جاء بالتزامن مع نية تركية لشن عملية عسكرية برية ضد الأكراد في سوريا، والتي يبدو أنها كانت مقررة بالفعل، وتوقفت بفضل الجهود الروسية، باعتراف الأكراد أنفسهم، في إطار دورها كوسيط، وتخوفا من تداعيات أخرى لم يعد يحتملها السوريون في الوقت الذي تخلى فيه “الحليف الأمريكي” عن الأكراد، فيما تؤكد واشنطن دائماً على أن علاقتها مع “قسد” هي في إطار محاربة داعش لا أكثر!
من هنا كانت الوساطة الروسية عاملاً موضوعياً يعمل على تحييد كل ما هو عسكري على الأراضي السورية، ويفتح الباب أمام الدبلوماسية بما يضمن عدم عودة الصراع المسلح مرة أخرى، ويمهد الطريق أمام العملية السياسية التي تتمسك بها موسكو في إطار قرار مجلس الأمن رقم 2254.
ومن وجهة نظري المتواضعة، أرى الأكراد يقعون في خطأ كبير بمهاجمتهم الاجتماع الثلاثي، خاصة حينما يصدر الهجوم عن شخصيات كردية قيادية شاركت في الكثير من اللقاءات في موسكو وجنيف، لا سيما حينما تظهر إلى العلن تحليلات على شاكلة أن “التقارب بين دمشق وأنقرة جاء بضغط روسي لتحقيق مصالح روسيا في أوكرانيا”. وذلك، مع كامل الاحترام، قصر في النظر وضحالة في الوعي السياسي، ولا أريد القول بأنه مجرد عبث وثرثرة فارغة.
فقد استقبلت روسيا القيادات الكردية في شمال وشمال شرق سوريا أكثر من مرة، وعلى أعلى المستويات، وفي كل مرة كانت الطروحات الروسية تحث الخطى نحو العمل في إطار الحل السياسي السوري السوري وتنفيذ القرار رقم 2254.
أما محاولة استخدام الوضع السوري الراهن وتجنيده في خدمة الصراع الذي يعود لعقود بين حزب العمال الكردستاني وتركيا، فإن ذلك أمر غير معقول، ومرفوض نهائيا، وقد نبهت موسكو، في جميع لقاءاتها مع الوفود الكردية، إلى ضرورة فصل القضيتين، وعدم ممارسة أي استفزازات بحق تركيا تعيق الجهود الروسية في السعي لمشاركة الأكراد في العملية السياسية في سوريا.
ولا أدري إلى ماذا استند القادة الأكراد في شمال وشرق سوريا إلى أن الاجتماع الثلاثي المنعقد في موسكو جاء ضد الشعب السوري، بل قل عن أي شعب سوري يتحدث هؤلاء، بينما عجزوا عن توحيد السوريين تحت راية مشروع واحد يجمعهم على الرغم مما يمتلكونه من إمكانيات الاقتصاد والجغرافيا والموارد البشرية، فيما زال المشروع الذي يتحدثون عنه نظرياً، لم يجمع حوله المعارضة السورية بمن فيهم الديمقراطيين أنفسهم، الذين قد يتشابهون معهم في التوجه والرؤية من المعارضة الرسمية، ولم نلمح من أي من هؤلاء أي مبادرة، ولو شكلية، يعبرون فيها عن “سوريا المستقبل” التي يريدونها على نحو فعلي، وفي إطار مشروع سوري على نحو عملي لا نظري.
في الوقت نفسه، لا زالت روسيا لا تدخر جهدا في محاولاتها مع السلطات الكردية في شمال وشرق سوريا، وهي تدرك أن هذه السلطات لم تتمكن، حتى كتابة هذه السطور، أن تعمل جديا حتى فيما يصب في مصلحتها، بدءا من عجزها عن فك ارتباطها، ولو شكليا، بحزب العمال الكردستاني، بينما ما ينقله الواقع أن حزب العمال الكردستاني لا زال متواجدا على الأرض السورية بشكل فعلي، سواء على مستوى القيادات أو على مستوى الكوادر الضالعة في القرار ومفاصل الإدارات والمؤسسات كفاعل حقيقي يمثل إرادة سياسية.
وهذه وقائع لا أنقلها من باب التكهنات أو الاستنتاجات، إنما حقائق يعرفها القاصي والداني من أبناء شمال وشرق سوريا، ولا تغيب عن روسيا ولا نقول عن تركيا. وتلك حالة لا يمكن لأي سياسي أو دبلوماسي أن يصفها إلا بما يشبه الفانتازيا أو الملهاة السياسية التي تربط سوريا والسوريين بقضية تركية داخلية، وتقدم قضية الأكراد على طبق من ذهب لتركيا التي تعلن عزمها على القضاء على التنظيم الذي تصفه إرهابيا، وتعاديه منذ عقود. فعن أي شعب سوري يتحدث القادة الأكراد في شمال وشرق سوريا، في الوقت الذي يربطونه بصراع تتحول بموجبه ثلث مساحة سوريا في الحسكة والرقة ودير الزور إلى صراع مسلح قد يستمر لعقود أخرى، وحرب لا ناقة فيها للسوريين ولا جمل.
لقد مر على عمر السيطرة الكردية على مناطق شمال وشرق سوريا ما يقارب العقد من الزمان، وهي حتى هذه اللحظة لم تتمكن من حوكمة مؤسساتها بشكل مقبول على أقل تقدير، وهو ما فتح الباب لانفلات أمني في غالبية المناطق، وخاصة في دير الزور، التي يتركز فيها الاقتصاد والنفط السوري، وتغيب المشاركة الفاعلة لمكونات وفعاليات وأحزاب ولدات من رحم مؤتمرات جماهيرية، حيث تم رفض تمثيلها في “مسد”. في الوقت نفسه، تتصارح شخصيات كردية في “مسد” والإدارة الذاتية على الاستحواذ على القرار بشكل شخصي، فيما استطاعت الإدارة الذاتية، مؤخرا، بامتلاكها المال والاقتصاد، أن تقوض سلطات وصلاحيات الجناح السياسي “مسد”.
على الجانب الآخر، تعمل “حركة الشبيبة الثورية” المنفلتة من كل سلطة، كقوى ثورية ذات سطوة على الأرض، حيث تؤدي الولاء بشكل علني لحزب العمال الكردستاني، وتستخدم لغة القوة والسلاح ضد كل من يعارضها أو يقف في وجهها، مستمدة سلطاتها من شخصيات قيادية في حزب العمال الكردستاني.
وقد هاجمت عناصر “الشبيبة الثورية” في وقت سابق مقرات كردية تابعة للمجلس الوطني الكردي وأحرقتها، كما هاجم عناصر “الشبيبة” في أكتوبر الماضي مقر هيئة الأمم المتحدة في القامشلي وأحرقته أمام وسائل الإعلام، تنديدا بقصف تركيا لمواقع حزب العمال الكردستاني، سقط على أثره مقاتلين من الحزب، وهو ما دفع منظمة الأمم المتحدة إلى نقل مقرها من القامشلي إلى المربع الأمني التابع للحكومة السورية.
لقد جاء الاجتماع الثلاثي الروسي السوري التركي في موسكو بعد فشل المعارضة السورية الرسمية في الخروج بمعارضة وطنية قادرة على الخروج بمشروع وطني سوري جامع، حيث هيمن عليها منذ بداياتها فكرة “أسلمة الثورة”، والتي ظلت تتحكم بشكل أو بآخر بكل مفاصل المعارضة السورية، حيث شكلت هذه الفكرة مادة مؤثرة تدفع نحو تطييف الصراع السوري، وتدفع بأجزاء من المعارضة السورية نحو التطرف والإرهاب، وتسهم في إنشاء جماعات إرهابية متطرفة، بالتوازي مع كيانات معارضة تعزف على وتر هذه الجماعات، وهو ما اغتال الحراك السلمي السوري، لصالح الجماعات المتطرفة، والتي أصبحت معها الحكومة السورية، فيما بعد، في خانة الحرب ضد الإرهاب، الذي تكفله جميع القرارات الدولية، ليصبح الأسد، في نظر الغرب ذاته، جزءا من الحل، بعد أن كان المشكلة.
وقد ولدت المعارضة السياسية الرسمية المؤثرة في مسار العمل التفاوضي في غالبيتها من رحم أفكار وهيمنة جماعة الإخوان المسلمين إبان فترة فورانهم خلال ما يعرف بـ “الربيع العربي”، فأصبحت هذه المعارضة من ذات السياق الفكري الذي يميز الجماعات العسكرية المتطرفة وأشباهها في الشمال السوري، الذي تسيطر عليه الآن “جبهة النصرة”، المصنفة كجماعة إرهابية في عرف القرارات الدولية.
اليوم، تبدو الجبهة ومعها الجولاني منبوذة من عموم الشعب السوري، في الوقت الذي لم تمثل هذه الجبهة منذ بداياتها الشعب السوري، بقدر ما ظلت تمثل نفسها كأيديولوجية تعمل على الأفكار التاريخية لحركات الإسلام السياسي بشأن “أستاذية العالم” و”إقامة الخلافة الإسلامية” و”الجهاد المستمر ضد الكفار”، وهي الجماعات ذاتها التي شوهت الحراك السلمي السوري، وهي ذاتها التي تعمل اليوم على تصدير خطابات شعبوية رافضة هي الأخرى لمخرجات الاجتماع الثلاثي الذي بدأ يهدد مشروعها في “الخلافة” و”الإمارة” و”الدولة الإسلامية”، وهي هي اليوم، ومع التحولات الدولية والإقليمية، تصبح عبئاً على الشعب السوري، وعلى تركيا في مناطق نفوذها، التي آن لها أن تنتهي.
لقد لعب الأكراد، ومعهم جميع مكونات المنطقة دوراً تاريخياً في القضاء على تنظيم “داعش” الإرهابي، ومحوه من الجغرافيا السورية، ولأنهم سوريون، فليس أمامهم من مخرج إلا أن يعملوا على سوريتهم، بعيداً عن التداخلات الدولية والإقليمية، والعمل معاً مع إخوانهم السوريين على الحل السوري السوري في إطار القرار الأممي رقم 2254، الذي يعلن بصراحة عن وحدة وسلامة وسيادة الأراضي السورية في إطار مشروع سوري.
أخيراً، أود التذكير بأن روسيا، التي عملت ضامناً لمناطق شمال وشرق سوريا، وحالت مؤخراً بين اندلاع العملية العسكرية البرية ضد الأكراد، واستبدلتها بحراك دبلوماسي دولي، هي ذاتها الدولة الوحيدة التي قدمت أول اقتراح يشمل كافة الأراضي السورية، بما يضمن مشاركة كل السوريين في بناء وطنهم، وممارسة حقوقهم الثقافية على تنوعها، وبما يضمن فكرة الولاء للدولة السورية الموحدة في إطار دستور قادر على صناعة سلام مستدام لكل السوريين.