رامي الشاعر
كاتب ومحلل سياسي
في مقال له بعنوان “روسيا والصين – شراكة تتطلع إلى المستقبل”، أعرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن ترحيبه باستعداد بكين للعب دور بنّاء في العمل على تسوية الأزمة الأوكرانية.
وأشاد بوتين بالموقف المتوازن للصين فيما يخص الأحداث الجارية في أوكرانيا، وفهمها للخلفية والأسباب الحقيقية التي تقف وراء قيام روسيا بعمليتها العسكرية الروسية الخاصة، مؤكدا على انفتاح موسكو على تسوية سياسية دبلوماسية للأزمة الأوكرانية، على الرغم من عدم التوصل لنتائج في أبريل الماضي، ومشددا على أن روسيا لم تكن هي من أنهى محادثات السلام بأي حال من الأحوال.
كما لم تكن موسكو هي من ضرب بعرض الحائط اتفاقيات مينسك، التي اعترف كل من ميركل وهولاند وبوروشينكو بأنها لم تكن سوى مسرحية دبلوماسية لشراء الوقت، ولم تكن روسيا هي من تمددت غربا حتى حدود “الناتو” وهددت وجود الاتحاد الأوروبي، وكل ما طالبت به موسكو هو عدم ضمان أمن البعض خصما من أمن الآخرين، والحفاظ على مسافة معقولة تحقق التوازن الأمني لجميع الأطراف، وبالتالي حياد أوكرانيا، وعدم دخولها “الناتو”، والحفاظ على حقوق ووضع السكان الروس والثقافة الروسية داخل أوكرانيا، وتحديدا في الشرق والجنوب، والحديث يدور عن ملايين البشر، ممن لم يتفقوا مع انقلاب 2014، وخاضت ضدهم كييف عمليتين عسكريتين خلال الفترة من 2014 وحتى 2022، وقتلت منهم عشرات الآلاف في هذه الفترة.
اليوم، وبينما تقف الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأوروبيون وصنيعتهم أوكرانيا، التي تم تجهيزها وتدشينها لتخوض حرب استنزاف مع روسيا، أملاً في زعزعة الاستقرار الداخلي، واختلاق السيناريو المعروف للثورات الملونة، على حافة الهاوية، وبينما لم تعد الأسلحة والذخائر الأوكرانية تكفي، وبينما يفصل بين سيطرة الجيش الروسي على أرتيوموفسك أيام معدودة، أو ربما أسابيع، فيما يعني القرار الذي اتخذه الرئيس الأوكراني زيلينسكي بالدفاع عن أرتيوموفسك، الخصم من قدرات الجيش الأوكراني للقيام بالهجوم المضاد الذي وعد به الغرب في مايو. اليوم، وبعد أن انهار بنك “سيليكون فالي” الأمريكي، ويتهاوى “كريديه سويس” السويسري، وهي حلقات من سلسلة دومينو تنذر بكارثة تحدق بالاقتصاد العالمي بأسره، يعيش بايدن وغالبية زعماء دول الاتحاد الأوروبي صدمة نفسية غير متوقعة، ويعجزون عن تصديق أن هذا ما جنته إجراءاتهم الحمقاء، وعقوباتهم الأحادية، ومحاولتهم “عزل” روسيا، ليجدوا أنفسهم اليوم وقد عزلوا أنفسهم لا روسيا، وأجهزوا على دولة كانت تسمى في السابق “أوكرانيا”، ولن تعود إلى حدودها السابقة مطلقاً، إذا ما قدر لها أن تبقي على هيكل أي دولة فاشلة تعتمد كلياً على أوروبا، وتتلقى المعونات والقروض من صندوق النقد الدولي.
إن نوبات الهلع النفسي والتوتر والقلق والإنكار وتكذيب الواقع والأحداث في محاولة يائسة للدفاع عن النفس والتهرّب من تحمل المسؤولية هي ما نسمعه ونراه الآن في كافة وسائل الإعلام الغربية، التي تنقل تصريحات الأمين العام للناتو ينس ستولتنبرغ بأن استهلاك أوكرانيا للذخائر يفوق معدل إنتاجها في أوروبا بـ “عدة مرات”، وتصريحات “البنتاغون” التي تحث أوكرانيا على “الاقتصاد في الذخائر”. إنها خسارة الحرب التي أعلنوها ضد روسيا بكل إمكاناتهم المتاحة إعلاميا واقتصاديا وعسكريا، لإلحاق “هزيمة استراتيجية” بروسيا. إلا أن روسيا لم تنهار لا اقتصاديا ولا إعلاميا ولم يتزعزع استقرارها الداخلي، بينما تشير استطلاعات الرأي إلى مزيد من الدعم للجيش الروسي ولرئيس الدولة وللوجود الروسي، فيما يدرك الشعب الروسي جيدا أن حربه ليست مع أوكرانيا، وإنما مع الغرب بيد أوكرانيا.
لكن ما يضحك ويؤلم في آن واحد هو ما لجأوا إليه، 17 مارس الماضي، من استصدار ما يسمونه “أمر اعتقال” بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وهي قمة المساخر، التي تمثل المسمار الأخير في نعش هذه المؤسسة، والقرار الذي سيدفنها تماما. ويأتي ذلك في الوقت الذي تصمت فيه هذه المحكمة عن أفعال الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان والعراق، وأفعال “الناتو” في يوغوسلافيا، وليبيا، وأفعال إسرائيل وغيرها، ليؤكد أولا على أن القرار لا يساوي ثمن الحبر الذي كتب به، وأن المحكمة انتهت فعليا من الوجود، ومعها منظومة القانون الدولي برمتها.
لكن، وعلى الجانب الآخر، فإن الأمل معقود على المبادرة الصينية التي تأتي في الوقت الحرج والمناسب، وتمثل ربما فرصة ذهبية أخيرة لعلاج بايدن وتابعيه من القادة الأوروبيين، لا سيما وأن الصين اشتهرت بالعلاج الطبيعي عن طريق الإبر الصينية. إنها بالفعل فرصة ذهبية تمنحها القيادتان الصينية والروسية من خلال ترحيب الرئيس الروسي بمبادرة الصين الصديقة، في توقيت زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى موسكو بينما أكتب هذه السطور، لعل “الإبر الصينية” تساعد في إيقاظ المهووسين بالحرب والدمار والإجهاز على أوكرانيا.
إن مبادرة الصين لا تحل أزمة أوكرانيا فحسب، بل أزمة الغرب بصفة عامة، والذي وصل إلى طريق مسدود، وبحاجة لأن يسترشد بحكمة الحضارتين الصينية والروسية، بعد أن قذفت رعونته وأوهام تفوقه بالبشرية نحو الدمار والانهيار، ولا شك أن تطور العلاقات الروسية الصينية، وما تمر به العلاقات الثنائية من نقطة تحول، تثير كثيرا من القضايا بشأن العالم متعدد القطبية الذي سيأتي ليمحو وهم الهيمنة والغطرسة الأمريكية.
إن مبادرة الصين إنما تمنح الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها فرصة ذهبية للمشاركة في صناعة هذا العالم الجديد، وهو الهدف الأساسي للصين من الوساطة بين روسيا والغرب، فهل يستجيب بايدن والغرب من تلك الفرصة؟