يرتبط البرنامج النووي العراقي في الأذهان باسم “صدام حسين”، وخاصة أن ذريعة الولايات المتحدة لإسقاط نظامه عام 2003 كانت امتلاكه أسلحة دمار شامل، وهي ادعاءات استندت إلى تقارير مُضلِّلة روَّجت لها إدارة “جورج بوش” الابن عن عَمد واتضح كذبها في النهاية. والواقع أن البرنامج النووي العراقي مات إكلينيكيا بعد حرب الكويت 1990-1991، لكن صدام أطلق إشارات في السنوات التالية باحتمالية وجود برنامج نووي في حوزته، كي يُظهِر شيئا من القوة والمهابة بعد الهزيمة الكبيرة التي مُني بها في الحرب، ومن ثَمّ أراد صدام أن يحتفظ بمخالب ولو وهمية يخيف بها أعداءه وتجعلهم يفكرون مرتين قبل أن يأخذوا قرارا بالإطاحة به. ما القصة الحقيقية إذن لتاريخ البرنامج النووي العراقي، الذي يعود في الحقيقة إلى ما قبل حُكم صدام، قبل أن ينتهي فعليا مع مطلع تسعينيات القرن العشرين؟
في عام 1956، اتفقت الولايات المتحدة مع العراق على تقديم مفاعل تجريبي صغير لأغراض علمية محدودة، بالإضافة إلى مكتبة نووية مليئة بالأبحاث المتطورة نسبيا في ذلك الوقت، ومنها أبحاث تخص القنبلة النووية الأميركية الأولى. وقد أتى ذلك التعاون نتيجة العلاقات التي أسسها الملك فيصل الثاني مع الولايات المتحدة، وكذلك نتيجة برنامج “الذرة من أجل السلام” الذي دُشِّن في عهد الرئيس الأميركي “دوايت أيزنهاور”، ومنحت بموجبه الولايات المتحدة معلومات القنبلة النووية لحلفائها بعد تفجير الاتحاد السوفيتي قنبلة هيدروجينية عام 1952. وبالفعل، وصلت المكتبة إلى العراق، إلا أن المفاعل لم يصل بسبب وقوع انقلاب 14 يوليو/تموز عام 1958 بقيادة “عبد الكريم قاسم” و”عبد السلام عارف”، وما تلاه من إعلان العراق جمهورية ودولة اشتراكية، فانقلبت العلاقات العراقية-الأميركية رأسا على عقِب. وقد استخدم العلماء العراقيون تلك المكتبة بعد ذلك أثناء عملهم على المشروع النووي العراقي
تعود البداية الفِعلية للبرنامج النووي العراقي إلى 17 أغسطس/آب 1959، إذ عقد العراق مع الاتحاد السوفيتي اتفاقا يقضي ببناء مفاعل نووي لأغراض سلمية من نوع “آي آر تي 2000″، الذي تُوِّج بالفعل عام 1968 بافتتاح منشأة “التويثة” للأبحاث النووية بجنوب بغداد، بالإضافة إلى عدة مبانٍ لإنتاج النظائر المُشِعة. غير أن العمل الجاد على المشروع النووي العراقي بدأ في عهد النظام البعثي في سبعينيات القرن الماضي، حيث سعى صدام حسين، نائب الرئيس في ذلك الوقت، لبناء محطة طاقة نووية بالتعاون مع الاتحاد السوفيتي، ومن ثَمّ بدأت الانطلاقة الجدّية للمشروع.
بالتزامن مع ذلك، كان هناك فريق يجمع العلماء النابهين للعمل داخل المشروع، وحاول المسؤولون عن المشروع النووي الحصول على المجسات الدقيقة والليزر والمطبوعات العلمية الحساسة في هذا المجال من الدول الغربية، وذلك عبر شبكة معقدة من الاتصالات وأنظمة الدفع عبر قنوات وهمية في وزارات العراق المدنية مثل الصحة والصناعة، للحفاظ على السرية ومحاولة التحايل على عقبات المنع المختلفة للوصول إلى التكنولوجيا المتطورة، وفقا لما أورده “عماد خدوري”، العالم العراقي الذي عمل في المشروع النووي لبلاده آنذاك.
لعبت إيطاليا أيضا دورا في المشروع النووي العراقي، حيث عرض الإيطاليون بيع معمل للكيمياء الإشعاعية يمكنه إنتاج البلوتونيوم المُشِع، وهو طلب رُفض سابقا من جانب الفرنسيين. وفي عام 1976، وقَّعت الهيئة النووية الإيطالية عقدا مدته 10 سنوات للمساهمة في الجهود النووية العراقية، ووافقت على بيع معمل يمكنه تصنيع قضبان الوقود النووي. وقد ذهب “جِد شنايدر”، كبير مساعدي الشؤون السياسية-العسكرية بوزارة الخارجية الأميركية بين عامي 1981 و1982، إلى أن المفاعلات العراقية حينئذ لم تكن بحاجة إلى تلك القضبان من أجل إنتاج الطاقة النووية، وأن التفسير الوحيد لشراء العراق معملا إيطاليا من هذا النوع هو تصنيع البلوتونيوم ومن ثَمّ إنتاج سلاح نووي.
وقد عبَّرت وزارة الخارجية الأميركية عن قلقها للإيطاليين حينئذ، في حين أكدت روما أن المعمل لن يُستخدم سوى في الأبحاث الطبية والصناعية، رغم إمكانية وجود استخدامات عسكرية له نظريا. وقال شنايدر إن الاعتماد المُفرِط لإيطاليا على النفط العراقي، ورغبة روما في تأمين إمدادات طويلة الأمد للنفط من النظام العراقي، دفعت الإيطاليين لعرض اتفاقات سخية مع النظام العراقي، منها إتاحة تكنولوجيا نووية حساسة من أجل البلوتونيوم تكفي لإنتاج قنبلة واحدة في السنة.
اكتسب البرنامج النووي العراقي زخما كبيرا في ذلك الوقت، فقد قام المشروع بسواعد عراقية وعربية، إذ استقدم المشروع العلماء العرب النابغين من سوريا وفلسطين ومصر، الذين أبلوا بلاء حسنا وأظهروا قدرة على إدارة المفاعل والعمليات النووية فيه. وبالطبع، سبَّب المفاعل العراقي إزعاجا كبيرا لإسرائيل التي اقتنعت بأن أحلام البعث النووية لن تتوقف عند الاستخدامات السلمية، وأن الهدف النهائي قنبلة ذرية تُغيِّر ميزان القوى في الشرق الأوسط. وقد حاولت إسرائيل أن تضغط على فرنسا بتقديم الاحتجاجات وعقد الاجتماعات الدبلوماسية لإيقاف تعاون باريس مع العراق في هذا المجال، لكن فرنسا ردَّت دائما بأن البرنامج العراقي سلمي، وأن العراق دولة مُوقِّعة على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية.
ولكن، في الحقيقة، لم تكن علاقة فرنسا بالأحلام النووية العراقية علاقة دعم بل احتواء، إذ استجابت باريس للضغوط عليها لتقليص مساعداتها النووية للعراق، وتحديدا الضغوط الأميركية. ووفقا للاتفاق الأصلي بين فرنسا والعراق، كان من المُفترض أن تزوِّد فرنسا المفاعلَين العراقيَّين بيورانيوم مُخصَّب بنسبة 93%. ولكن بحلول عام 1980، واستجابة للضغوط، طوَّر الفرنسيون نوعا جديدا من الوقود المُخصَّص للمفاعلات النووية باسم “كراميل”، وهو وقود به يورانيوم لا تتجاوز نسبة تخصيبه 7%، وهي نِسبة تسمح بعمل المفاعل، لكنها لا تسمح بتصنيع سلاح نووي. وقد رفض العراق في البداية الوقود “كراميل”، ومن ثَمّ أرسلت فرنسا إلى العراق 12 كيلوغراما من اليورانيوم عالي التخصيب عام 1980، لكنها كانت الشحنة الفرنسية الأخيرة من اليورانيوم عالي التخصيب التي تُرسل إلى بغداد.
في عام 1979، كانت إسرائيل قد وقَّعت اتفاقية سلام مع أكبر أعدائها في الشرق الأوسط، جمهورية مصر العربية، وأخذت تراقب على الجانب الآخر تطوُّر العراق عن كثب تحت القيادة البعثية التي أعلنت عداءها لوجود دولة الاحتلال الإسرائيلي. ومع صعود صدام حسين إلى رأس السلطة رسميا في العراق في العام نفسه، واندلاع الثورة الإسلامية في إيران ثم الحرب مع العراق، وتسارع الجهود في البرنامج النووي العراقي، وكذلك اللغط المتزايد حول المعمل الإيطالي القادر على إنتاج البلوتونيوم؛ باتت هناك قناعة راسخة لدى إسرائيل بحلول مطلع الثمانينيات بأنه لا بد من تنفيذ تدخل عسكري لتدمير المشروع النووي العراقي قبل أن يتطوَّر أكثر من ذلك وتُصبح له عواقب غير محمودة على أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي.
في يوم 7 يونيو/حزيران 1981، حلَّقت 8 طائرات إسرائيلية من طراز “إف 16” و6 طائرات من طراز “إف 15” نحو جنوب شرق بغداد لتدمير المفاعل، واخترقت الصحراء الأردنية والسعودية والعراقية بالتحليق على ارتفاع منخفض لم يَزِد عن 300 قدم كي لا يتم رصدها. وتمكَّنت الطائرات من الوصول إلى المفاعل “تموز 1″، ودمَّرته في تمام الساعة السادسة والنصف مساء. وقد استغرقت العملية كلها 3 ساعات فقط، وأشرفت عليها أجهزة المخابرات في الجيش الإسرائيلي، وأطلقت عليها إسرائيل اسم العملية “أوبرا”. هذا ولم تضرب إسرائيل المفاعل الصغير لعدم أهميته بالنسبة إليها، إذ كان أقرب إلى نسخة تجريبية من المفاعل الكبير.
اتخذت إسرائيل قرارها بالتدخل العسكري بعد سنوات من محاولة تدمير المشروع من الداخل عبر تجنيد الجواسيس وتهديد الخبراء الأجانب فيه بالقتل، تماما كما فعلت مع المشروع النووي المصري في عهد الرئيس الراحل “جمال عبد الناصر”. علاوة على ذلك، نفَّذت إسرائيل اغتيال العالم المصري “يحيى المشد” في عام 1980 أثناء وجوده في باريس، وهو أحد أهم العلماء المشاركين في المشروع النووي العراقي. وقد تمكَّنت إسرائيل بالفعل من تجنيد مهندس إيطالي يعمل مستشارا في المفاعل، وأخبر إسرائيل بما يعرفه من أسرار المفاعل ومدى تقدُّم العمل فيه. ومع تلك المعلومات التي ترافقت مع الفشل في تدمير مشروع المفاعل من الداخل بالاغتيالات، قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي “مناحم بيغِن” شن غارة جوية على المفاعل.
لم تقض العملية “أوبرا” على أحلام صدام النووية بالكامل، فسرعان ما بدأ النظام العراقي يفكر جديا في استئناف مشروعه وتخصيب اليورانيوم. وقد بدأ العمل من جديد على المشروع النووي من خلال تكليف لجنة الطاقة الذرية باستئناف العمل وتوفير القدرة من أجل الإنتاج الواسع السري للمواد الانشطارية، ووعدت اللجنة صدام في أبريل/نيسان 1985 بتحقيق أهداف المشروع بحلول عام 1990، ولكن في عام 1991 قصفت الولايات المتحدة أثناء حرب الخليج منطقة المفاعل العراقي الذي كان لا يزال في الخدمة. ومع الهزيمة العراقية في الحرب وما تبعتها من سنوات توافدت خلالها مهمات التفتيش الدولية، انتهت أي أحلام نووية عراقية على أرض الواقع، رغم بعض الشهادات العراقية التي قالت إن المفاعل نُقِل بعد الضربة ثم أخذه الروس بعد ذلك، وإن المشروع النووي ظل قائما بوصفه مشروعا بحثيا بعد الحرب.