رامي الشاعر
لا زالت أصداء ما قامت به شركة “فاغنر” للحراسة تترد في أماكن مختلفة حول العالم.
لقد قرر مؤسس تلك الشركة/المجموعة يفغيني بريغوجين التعبير عن عدم رضاه بإنهاء المهام الموكلة إلى شركته على الأراضي التي تم ضمّها إلى روسيا حديثاً من خلال مسيرة واستعراض عسكري غير موفق. نعرف كيف انتهت الأمور، واستتب الأمن، وعادت الأوضاع إلى وضعها الطبيعي بعد الفوضى التي أحدثتها تصرفات عناصر شركة “فاغنر” في المناطق التي اختارتها مسرحا للتعبير عن موقفها، وبدأت المؤسسات الروسية الرسمية تسلم مهامها في إدارة شؤون المناطق التي تم إعادتها إلى الوطن الأم روسيا بداً عن شركة “فاغنر”.
أشير في هذا الصدد إلى التسمية الرسمية لشركة “فاغنر” الأمنية للحراسة، وأؤكد على عدم وجود أي صفة عسكرية رسمية لهذه الشركة، والتي قامت بمهام تأمين الأمن داخل المدن وبعض المناطق ونفذت بعض المهام في تحرير الكثير من الأبنية والشوارع، بينما كانت القوات النظامية للجيش الروسي تستمر في التقدم وتحرير واستعادة كامل الأراضي التي شملها الاستفتاء، وتدخل حدودها ضمن مهام العملية العسكرية الروسية الخاصة، في المناطق والأراضي التي كان يتم استعادتها وتحريرها من قبل القوات الروسية، وكان ذلك يتم بالتنسيق الكامل مع وزارة الدفاع الروسية، ومع الإدارات العسكرية لتلك المناطق، وكل ما يتم ذكره في وسائل الإعلام من محاولة انقلاب أو تمرد عسكري غير صحيح، ولا علاقة له بالجيش الروسي أو مؤسساته الرسمية.
لقد تسببت تلك الأحداث في قلق لدى كثيرين، لا سيما الحريصين على روسيا والدور الذي تقوم به على الساحة الدولية لإنهاء الهيمنة الأمريكية الغربية، وانتقال العالم من الأحادية القطبية إلى التعددية القطبية، وسيادة القوانين الدولية واحترام قرارات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، التي تضمن حقوق الشعوب في الاختيار وتقرير المصير، واحترام سيادة الدول على أراضيها.
لم أكن أفضل أن تلجأ “فاغنر” لمثل هذه الأساليب الاستعراضية للتعبير عن عدم رضا مؤسسها، وربما وجهة نظر كثيرين من المقاتلين المنضوين تحت لوائها، إلا أنني أطمئن الجميع أنه، وبالرغم من كل ما حدث، فإن ذلك لا يمكن أن يؤثر بأي شكل من الأشكال لا على سير العمليات القتالية في إطار العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، ولا على الأمن والاستقرار ووحدة الجبهة الداخلية في روسيا، ولا على السياسات الداخلية أو الخارجية للبلاد.
بل، وعلى العكس من ذلك، فقد دفعت هذه الحادثة، إلى الواجهة بعناصر من الطابور الخامس في الداخل، وأججت وأظهرت مشاعر الغضب والغل والحقد في صفوف المعارضة الروسية العميلة مدفوعة الأجر في أوروبا الغربية، وكانت بمثابة كشاف مضيء فضح عددا من المتخفيين هنا وهناك تحت ستار “الموضوعية” و”الحياد”. فقد ظهر هؤلاء، وبتصورهم أنه “تمرد مسلح”، شرعوا في تفسيره وتحليله وبناء الأحلام عليه، الأمر الذي استغلته وسائل الإعلام المعادية بكل ما أوتيت من قوة.
إن ما حدث سيدفع للقيادة الروسية نحو الاهتمام بمعالجة عدد من القضايا والآثار التي نتجت عن الحرب الهجينة التي تواجهها روسيا على كثير من الأصعدة المختلفة الأمنية والإعلامية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، والتي ازدادت حدتها باحتداد المواجهة مع حلف “الناتو” والاتحاد الأوروبي خلال السنة الأخيرة.
إن إمكانيات روسيا، أكبر دولة في العالم، والممتدة على زهاء 17 مليون كيلومتر مربع، وعلى 11 خط طول هائلة وضخمة ومطمئنة للغاية، وعندما يتم تجنيد هذه الإمكانيات فإنها، وبدون مبالغة قادرة على مواجهة أي مخاطر مهما كان حجمها، والتاريخ يشهد بذلك.
كذلك، فإن لروسيا حلفاء حول العالم، لا يمكن أن تتزعزع الثقة بينهم وبينها، ويتبنون نفس السياسة والأفكار والتوجهات الخارجية بشأن الانتقال إلى عالم التعددية القطبية والمساواة بين الدول ذات السيادة، ويكفي التطرق إلى ما أعلنته بكين على لسان نائب الرئيس هان تشنغ من أنه على المجتمع الدولي “حل وتسوية النزاعات عن طريق الحوار والمشاورات، والاعتماد على التعددية والشمولية”، فيما أكد أنه على الدول العظمى القوية، العمل على تعزيز السلام بشكل لا لبس فيه، والمساعدة في الترويج للمفاوضات والوساطة وفقا لاحتياجات ورغبات الدول المعنية”.
إن تلك الكلمات تتطابق بشكل كامل مع ما تسعى إليه روسيا من خلال انتقال العالم نحو التعددية القطبية، وقد أصبح هذا التوجه أساساً لسياسات مجموعة كبيرة من بلدان العالم، ومن المؤكد أن تلك الدائرة من الدول سوف تتسع وستسود لتصبح هي النواة الصلبة للنظام العالمي الجديد.
إن مصير العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا حاسم وحتمي، ذلك أن جوهر تلك العملية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمستقبل العالم، وحدوث انفراج في عدد من المشكلات الإقليمية، بما في ذلك في بعض الدول العربية، وأهمها قيام الدولة الفلسطينية المستقبلية وعاصمتها القدس الشريف، والتي أتوقع أن تقوم خلال عامين أو ثلاثة.
سيحدث كل هذا، ولن تسمح روسيا والصين وبلدان مجموعة “بريكس” أن يوضع العالم أمام خيارين: إما الدمار النووي أو أحادية القطبية، فهذا الأسلوب الذي تلمح له الولايات المتحدة الأمريكية كتهديد أو ابتزاز. فالسلام والعدالة هما مستقبل العالم ولا بديل عن ذلك.
أكرر أن على الجميع أن يدرك أن العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا تسير بالتوازي مع عملية سياسية دولية أوسع، تقوم فيها روسيا بالدور الرئيسي على الجبهات الأمامية في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، إلا أنها، روسيا، تلقى دعماً معنوياً فعالاً وتأييداً دولياً واسعاً، وتكفي الإشارة إلى ما تقوم به الآن بلدان “بريكس” من استصدار عملة ولية جديدة، أو الدور الذي تقوم به في مساعدة روسيا في التغلب على مصاعب الحصار الاقتصادي، ومواجهة الحرب الإعلامية الضروس، والتضييق على المواطنين الروس في الحركة.
إن روسيا تخوض حرباً لا من أجل أمنها القومي فحسب، وإنما من أجل تحرير العالم من براثن سلاح الدولار، الذي يستخدم لتهديد والتحكم في الجميع، لهذا يتعاطف معها كثيرون حول العالم. لكن ما يطمئن هو أن الاتحاد السوفيتي تمكن من تحرير العالم من براثن النازية منذ 78 عاما، والآن تحرره روسيا من النازية الجديدة ومن الدولار معا.
كاتب ومحلل سياسي