الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر
قال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن منذ أيام إن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها سيواصلون “قلب الأرض والسماء” لتلبية الاحتياجات العسكرية لأوكرانيا بما يضمن إنشاء جيش حديث قادر على القتال.
كما أضاف أوستن أن الولايات المتحدة وحلفاءها سيواصلون تدريب الجيش الأوكراني وتوفير معدات التدريب.
لقد صرح رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال مارك ميلي، نوفمبر الماضي، بأن عدد الخسائر البشرية الأوكرانية ما بين قتيل وجريح تصل إلى 100 ألف جندي على الأقل، وتلك التقديرات تسبق الهجوم الأوكراني المضاد بأشهر، كما تسبق عملية تحرير مدينة أرتيوموفسك وغيرها من المعارك التي تكبدت فيها القوات المسلحة الأوكرانية خسائر تقدر بعشرات الآلاف من الجنود.
في الوقت نفسه أشارت صحيفة “بوليتيكو” مؤخرا إلى أن الغرب، حول اهتمامه من تزويد أوكرانيا بالأسلحة إلى إصلاح وصيانة هذه الأسلحة لإعادتها إلى ساحات القتال، حيث كتبت الصحيفة، نقلا عن مصدر في “البنتاغون”، أن الغرب، في محاولة لزيادة الإمكانات العسكرية لكييف، قد حوّل تركيزه إلى إصلاح وصيانة الأسلحة الموردة إلى القوات الأوكرانية، حيث قد يستمر النزاع لأشهر وربما لسنوات.
يأتي هذا على خلفية ازدياد وتيرة تدمير القوات الروسية لهذه الأسلحة، ما يدفع إلى الحاجة إلى إصلاح وصيانة المعطوب منها، فيما قال نائب وزير الدفاع الأمريكي وليم لابالانت: “نحن نشيّد ورش للصيانة في أوروبا، وعلينا أن نفعل الكثير معا حتى يكون هناك المزيد من التركيز على ذلك من الدول الشريكة”، مضيفا أن قضية الحفاظ على قدرة الأسلحة الحديثة التي يقدمها “الناتو” لكييف بمليارات الدولارات لتتمكن القوات الأوكرانية من مواصلة هجومها المضاد، من المهام الأساسية لمجموعة العمل المكونة من 22 دولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبولندا وبريطانيا.
وفي سياق متصل، وصف الضابط المتقاعد من استخبارات مشاة البحرية الأمريكية، سكوت ريتر، الوضع على الأرض في أوكرانيا بأنه “مأساة”، حيث يقول: “تكمن المشكلة في أنه كان لدى أوكرانيا جيش نظامي قوامه 260 ألف شخص في بداية العملية العسكرية الخاصة، والآن قتل من هؤلاء أو أسر أو أصيب 80%، ولا يوجد بديل لهم على نفس المستوى من الاحترافية والتدريب”.
فإذا ما وضعت تلك الأخبار معاً، تتضح الصورة كاملة فيما يخص الرغبة المحمومة لـ “الناتو” بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في استمرار وتأجيج وتيرة الصراع، وتزويد أوكرانيا بمزيد من الأسلحة، ومزيد من القنابل العنقودية المحرمة دولياً، تعبيراً عن يأس مروع، بعد فشل الهجوم الأوكراني المضاد، فيما يمضي الغرب حتى نهاية المشوار، ويضحي بكل أوكراني قادر على الصراع، حتى ولو لم يكن على المستوى المطلوب من التأهيل.
والولايات المتحدة وحلفاءها مستعدون لتدريب الجنود الأوكرانيين، في دورات تدريبية مكثفة، حتى يمكن، بعد أسبوعين أو ثلاثة، أو شهر أو شهرين، إلقاء هؤلاء في أتون الحرب، علفاً للمدافع.
في الوقت نفسه، يؤكد الإعلام الغربي بكل سطوته وهيمنته على أن روسيا قد “انهزمت”، وبوتين “يعيش آخر أيامه”، بينما تشي جميع الحقائق على الأرض بعكس ذلك تماماً. يدعي الإعلام كذلك أن “المجتمع الدولي” يقف وراء أوكرانيا صفاً واحداً، ويعلم الله ما يمكن أن يعنيه الآن هذا المصطلح المبهم “المجتمع الدولي”، أو “العالم الحر”!
لعل أكثر المواقف دلالة على ذلك ما حدث منذ أيام في اجتماع ممثلي الاتحاد الأوروبي وأمريكا اللاتينية في آخر يوم من قمة الاتحاد الأوروبي ودول أمريكا اللاتينية ومنطقة بحر الكاريبي، حينما تعثر القادة المشاركون لفترة طويلة عن التوصل إلى اتفاق خلال القمة التي استمرت يومين في بروكسل، فيما كانت إحدى العقبات الرئيسية هي تضمين بند حول الصراع في أوكرانيا، و”إدانة روسيا”.
وقد صرح الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا خلال تلك القمة بأن العالم “سئم الصراع الأوكراني”، منتقدا الرئيس التشيلي غابرييل بوريك، الذي دعا خلال القمة زعماء دول أمريكا اللاتينية إلى إدانة تصرفات الجانب الروسي في الصراع بأوكرانيا.
إن العالم يتغير، بل قد تغيّر فعلياً، وسئم لا الصراع الأوكراني وحده، وإنما سئم الأحادية القطبية، وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية والغرب على مصائر ومقادير البشر حول العالم، ومما يدعو للتأمل والتفكير اليوم هو ذلك الزخم الذي يدور حول منظمة “بريكس”، وعدد الطلبات المقدمة للانضمام إلى المنظمة التي أصبحت ذات شأن خلال السنوات الأخيرة، ومرشحة لأن تكون من أهم المنظمات الدولية، إلى جانب الأمم المتحدة، التي أصبحت، في كثير من الأحيان، أداة طيعة في يد الدول التي تطلق على نفسها وصف “المجتمع الدولي”.
إن العالم يتحول بإرادة واعية نحو التعددية القطبية، وأسفر وهم “عزل روسيا” الذي تعيشه دول الغرب عن التفاف كثير من دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية حول مراكز أخرى من بينها روسيا والصين، بحثاً عن مكان تحت الشمس، بعيداً عن الإملاءات والضغوط والعقوبات والحصار وأوهام التفوق والاستثنائية والتصريحات الوقحة لوزير الدفاع الأمريكي بـ “قلب الأرض والسماء” والعياذ بالله.
ولعل من بين الدلالات على ذلك ما تستضيفه روسيا خلال أيام من قمة روسية إفريقية بمدينة بطرسبورغ، حيث ستشارك بها 43 دولة، وسيشارك 20 زعيم إفريقي، وسيشارك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فيما سيأخذ في الوقت نفسه طابع الزيارة الرسمية لروسيا، وهو ما يفتح آفاقاً عريضة للتنمية والتعاون ورعاية المصالح المشتركة بين روسيا والقارة السمراء. ولا شك أن حضور السيسي يحمل في هذه الظروف تحديدا، وفي ظل كل الضغوط المفروضة على إفريقيا، وتحديداً على مصر، دلالة خاصة على أن العالم العربي جنباً إلى جنب مع إفريقيا يسير في اتجاه التعددية القطبية، ويطمح هو الآخر إلى إنهاء الهيمنة الأحادية.
وختاماً، دعونا نتذكر بعض بديهيات الجغرافيا، التي ربما تغيب عن البعض، ممن يظنون أن الأحادية القطبية قدر لا فكاك منه: تمثل قارة إفريقيا 20.4% من إجمالي اليابسة على كوكب الأرض، ويقطنها أكثر من مليار نسمة، فيما تمثل قارة أوروبا 6.8% ويقطنها 738 ألف نسمة، وتمثل قارة أمريكا الشمالية 16.5% ويقطنها 574 ألف نسمة. أما آسيا، أكبر القارات على كوكبنا فتمثل 29.5% من إجمالي اليابسة، ويقطنها 4.4 مليار نسمة.
لهذا فحينما يتحدث المسؤولون في واشنطن أو بروكسل بحلاتهم الأنيقة عن “المجتمع الدولي” أو عن “العالم الحر” أو عن تصدير “الديمقراطية” و”الحرية” على النظام الأمريكي أو حتى الأوروبي، فلا يسع المرء سوى أن يبتسم تعجّباً من فجاجة الحضارة الغربية التي قامت على أكتاف الحضارة الإسلامية ومن موارد إفريقيا التي سرقتها ولا زالت، بل وتفتخر بذلك، وتعجز حتى عن الأسف لما فعلته بالقارة السمراء.
إلا أن ذلك ليس سقف الدهشة، بل سقفها حينما تستمع إلى أهلنا في الشرق الأوسط، من المحللين والصحفيين والإعلاميين العرب بينما يدافعون بكل حماس عن “الناتو” وواشنطن والبيت الأبيض، دون أن يفكّروا للحظة في أن هيمنة “السيد” الأمريكي التي استمرت لثلاثة عقود عقب تفكك الاتحاد السوفيتي هي ما أودت بنا في نهاية المطاف إلى حيث نقف على أعتاب الحرب العالمية الثالثة، التي تسعى أغلبية الدول، والمجتمع الدولي الحقيقي إلى تجنبها استناداً إلى الأغلبية الحقيقية، وليست القائمة على أوهام التفوق والنقاء العرقي الأبيض.
نهاية الأحادية القطبية حتمية تاريخية، وستبزغ شمس العالم متعدد الأقطاب رغماً عن أنف كل من يقف ضد عجلة التاريخ.