رامي الشاعر
ظهرت مؤخراً عدة مبادرات من بعض الرؤساء للعب دور الوسيط في الأزمة الأوكرانية بغرض محاولة العودة إلى طاولة المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، وذلك أمر محمود وجهود مشكورة، ولكن..
دعونا نعود إلى شهر أبريل من عام 2022، وبعد شهرين من بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وخلال مفاوضات إسطنبول، اتفق المفاوضون الروس والأوكرانيون مبدئياً على خطوط عريضة لتسوية تفاوضية مؤقتة.
ولا أكشف سراً حينما أقول إن جوهر تلك التسوية كان يقترب من شروط اتفاقيات مينسك التي اعترفت أوكرانيا ومعها الغرب، بعد ذلك التاريخ وهو ما كشف الكثير من الأوراق، بأنها لم تكن سوى مسرحية دبلوماسية من أجل كسب الوقت لإعداد أوكرانيا لمواجهة روسيا.
كانت روسيا حينها قد اعترفت باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين (22 فبراير 2022)، بعد سنوات من محاولة إقناع أوكرانيا بالإبقاء على الجمهوريتين تحت مظلة السيادة الأوكرانية، وإعطائهما “وضعاً خاصاً” يتم تعزيزه في الدستور الأوكراني، حتى يتسنى لأهالي تلك المناطق ذوي القومية الروسية أن يعيشوا بهويتهم وثقافتهم.
اعترفت روسيا باستقلال الجمهوريتين بعد 8 سنوات (2014-2022) من القصف وحرب الدولة الأوكرانية ضد مواطنيها، وبعد عمليتين عسكريتين فاشلتين، وبعد عدد من القتلى بلغ 12 ألف مواطناً أوكرانياً من أهالي منطقة دونباس، ناهيك عن الضحايا من المصابين والدمار.
لذلك وجب توضيح أن ما يسمونه في الغرب “الحرب الأوكرانية”، ونسميه في روسيا العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، لم تبدأ اعتباطاً في 24 فبراير 2022، وإنما بدأت قبل ذلك بثمان سنوات، عقب الانقلاب الذي وقع في أوكرانيا عام 2014، إلا أن تلك قصة أخرى، لا تقل تعقيداً عن الأزمة الراهنة، وكانت أحد أسبابها الرئيسية.
أقول إنه في شهر أبريل 2022، وبعد بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة، كانت شروط الاتفاق ما بين روسيا وأوكرانيا، بوساطة تركيا، أن تنسحب روسيا حتى حدود 23 فبراير 2022، تاركة أراضي دونباس لأوكرانيا، مقابل أن تتنازل أوكرانيا عن سعيها للحصول على عضوية “الناتو”، وتتلقى ضمانات أمنية يوفرها عدد من البلدان. وافقت أوكرانيا وروسيا، ولاح حينها أمل في الأفق أن تتوقف إراقة الدماء بين الأشقاء، وتعود المياه إلى مجاريها.
لكن رئيس الوزراء البريطاني آنذاك بوريس جونسون، ولا أستبعد أن يكون ذلك بمكالمة هاتفية من الرئيس الأمريكي جو بايدن، هرع فوراً إلى كييف، ليقنع زيلينسكي بألا يرضى بتلك المفاوضات، وأن يقطع المحادثات مع روسيا، فبوتين، وفقا لجونسون، “لا يمكن التفاوض معه”، و”الغرب ليس مستعدا لإنهاء الحرب”.
لم يمر شهرين حتى أعلن رئيس الوزراء البلجيكي، ألكسندر دي كرو، في يونيو 2022، أن “الناتو” أبلغ الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي بأن الصراع في أوكرانيا يجب أن يتم حسمه “بالوسائل العسكرية”.. هكذا صراحةً وعلانيةً وجهاراً نهاراً.
لهذا، فالحديث عن أوكرانيا، أو قرار أوكرانيا، أو سيادة أوكرانيا، هو محض عبث وهراء وكلام فارغ من المضمون. أما بقية القصة فنعرفها جميعاً، وشاهدنا تطورها خلال العام ونصف المنصرمين، حرب بالوكالة بين روسيا و”الناتو”، بينما يدجج الغرب أوكرانيا بكافة أنواع الأسلحة، آخرها القذائف العنقودية المحرمة دولياً.
لقد بدأ تمدد “الناتو”، الذي ظل يضم 16 دولة قبل تفكك الاتحاد السوفيتي، بما أنشأه الحلف، عام 1994، من منظمة ما سمي آنذاك بـ “الشراكة من أجل السلام” وهي منظمة تهدف إلى خلق الثقة بين الحلف ودول أخرى في أوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقاً، وضمت حينها 22 دولة (من بينها روسيا وأوكرانيا وبيلاروس!)، حتى حصلت بعض تلك الدول (14 دولة على وجه التحديد) على العضوية الكاملة في “الناتو” على ست دفعات، أولها في 12 مارس 1999، وضمت: التشيك والمجر وبولندا، ثم في 29 مارس 2004، وضمت: بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا، ثم في 1 أبريل 2009، وضمت: ألبانيا وكرواتيا، ثم في 5 يونيو 2017 وضمت جمهورية الجبل الأسود، ثم في 27 مارس 2020 وضمت مقدونيا الشمالية، وضم الحلف أخيراً فنلندا في أبريل 2023، ليصبح عدد أعضاء الحلف 31 دولة.
تلك حقائق على الأرض عمرها ثلاثة عقود، وكان “الناتو”، وفقا لما كشفت عنه وثيقة، نقلتها مجلة “دير شبيغل” الألمانية، نقلا عن مواد أرشيفية اكتشفها الباحث السياسي الأمريكي جوشوا شيفرنسون من جامعة بوسطن، قد تعهد نصيا بعدم التمدد شرقاً، حيث قال حينها ممثل وزارة الخارجية في ألمانيا الغربية، أثناء لقاء عقده وزراء خارجية الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا في مدينة بون 6 مارس 1991: “خلال المفاوضات بصيغة 2+4 (حول توحيد ألمانيا) أكدنا بوضوح أننا لن نوسع الناتو إلى ما وراء نهر إلبه، وبالتالي نحن لا نستطيع أن نعرض على بولندا ودول أخرى عضوية الحلف”، ولا نتطرق هنا فقط للوعود “الشفهية” التي حصل عليها ميخائيل غورباتشوف.
مؤخراً، وبعد انقلاب 2014 في أوكرانيا، كان من المخطط أن تتحول شبه جزيرة القرم خلال أيام معدودة إلى أكبر قاعدة عسكرية بحرية لحلف “الناتو” على الحدود الروسية، لولا أن وقفت عملية استعادة روسيا لشبه الجزيرة أمام تلك المخططات الخبيثة. لكن واشنطن وحلفائها لا زالوا يواصلون مساعيهم لتحويل أوكرانيا كلها إلى قاعدة انطلاق لتهديد الأمن القومي الروسي، واستنزاف القوة العسكرية والاقتصاد الروسي، تمهيدا لتركيع وتدمير الدولة الروسية، وهو ما لن يحدث أبداً، لأن العقيدة النووية الروسية لن تقف أمام مثل هذا التهديد الوجودي مكتوفة الأيدي.
أضطر للتذكير بذلك من جديد، وكنت قد كتبت عنه بشكل مفصل مراراً وتكراراً في عدد من المقالات، إلا أن بعض الرؤساء، على الرغم من أهدافهم الحميدة للوساطة، ربما قد نسوا تسلسل الأحداث وربطها ببعضها البعض، وباتوا يعتقدون أن القيادة الروسية أخطأت وتورطت بإعلان بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة، وهي بحاجة الآن “لوساطة” من أجل إنهاء النزاع.
لهذا أوضح مجدداً أن روسيا لم ترتكب أي أخطاء بشأن العملية العسكرية الروسية الخاصة التي جاءت في وقتها المناسب بعد أن استنفدت كل الجهود الممكنة وغير الممكنة لحل الأزمة سلمياً، وبعد إراقة دماء 12 ألف مواطن أوكراني من أصول روسية، ولم يكن توقيت العملية اعتباطاً ولا حتى اختيارياً، بل حتمته ظروف معقدة على رأسها ضرورات الأمن القومي الروسي.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن خطر واحتمال المواجهة العسكرية المباشرة مع “الناتو”، والذي يلوح في الأفق مؤخراً، مع انهيار صفقة الحبوب، وسعي أوكرانيا وبولندا ودول البلطيق إلى افتعال أزمات في البحر الأسود، من شأنها أن ترفع من وتيرة الاحتكاك بين روسيا و”الناتو”، قد وضع هو الآخر في الحسبان. وأود بهذه المناسبة أن أطمئن الرؤساء الساعين إلى الوساطة، خاصة ممن يحرصون على روسيا ومصالحها وأمنها ومكانتها، أن العملية العسكرية الروسية الخاصة لا يمكن أن تتوقف تحت أي ظرف من الظروف دون تنفيذ جميع أهدافها، وضمان أمن روسيا بالكامل ضد أي تهديدات مستقبلية محتملة.
وإذا كان الغرب يخوض حرباً هجينةً لعقود مضت، تحولت مؤخراً إلى حرب بالوكالة بيد أوكرانيا، فإن روسيا من جانبها تخوض معركة فعلية أوسع بكثير من حجم ومساحة العملية العسكرية الخاصة واستطاعت تجاوز كل الضرر الذي حاول أعداء روسيا إلحاقه بها على كافة المستويات: الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والثقافية، ومن خلال خلق اضطرابات داخلية، وافتعال أزمات في الدول المحيطة، وغيرها.
غداً، تجتمع 49 دولة إفريقية في مدينة بطرسبورغ الروسية في إطار المنتدى الاقتصادي والإنساني الروسي الإفريقي، القمة الثانية “روسيا-إفريقيا” تحت شعار “مع السلام والأمن والتطور” خلال الفترة 27-28 يوليو الجاري، بحضور حوالي 30 رئيس دولة ورئيس وزراء إفريقي.
وخلال الشهر المقبل، 22-24 أغسطس، تستضيف جنوب إفريقيا قمة منظمة “بريكس” التي تقدمت إليها 22 دولة رسمياً طلباً للعضوية، مع وجود عدد مماثل من الدول التي طلبت الانضمام بشكل غير رسمي. ولعل من الطريف هنا أن نشير إلى رغبة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لحضور قمة “بريكس”، ورفضها من قبل جنوب إفريقيا التي ترأس هذه القمة.
ختاماً، ومرة أخرى، أعاود تذكير نفسي وإياكم ببعض بديهيات الجغرافيا، التي ربما تغيب عن بعض ممن يظنون أن الأحادية القطبية قدر لا فكاك منه: تمثل قارة إفريقيا 20.4% من إجمالي اليابسة على كوكب الأرض، ويقطنها أكثر من مليار نسمة، فيما تمثل قارة أوروبا 6.8% ويقطنها 738 مليون نسمة، وتمثل قارة أمريكا الشمالية 16.5% ويقطنها 574 مليون نسمة. أما آسيا، أكبر القارات على كوكبنا فتمثل 29.5% من إجمالي اليابسة، ويقطنها 4.4 مليار نسمة.
لهذا فأنا على ثقة بأنه بدءا من العام المقبل ستنقلب المعادلة، وسيتحول أي تصويت للجمعية العامة للأمم المتحدة لأغلبية في صالح أجواء العالم الجديد متعدد القطبية، بعد أن تبرز مراكز جديدة للتنمية حول العالم، لتعلن نهاية الهيمنة الغربية، وتؤسس لعالم يستند إلى احترام القوانين الدولية وعلى رأسها ميثاق الأمم المتحدة، واحترام التنوع الثقافي والحضاري للعالم، وحق الشعوب في اختيار مصيرها وسبل تنميتها.
وتلك أيضاً من بين أهداف العملية العسكرية الروسية الخاصة ضد “الناتو”.