الدكتور نعيم العبودي
ليس سهلا أن تتخذ البلدان قراراً بتطوير النظم التعليمية لديها لأن هذا النوع من القرارات في جميع دول العالم يرتبط بعمليات معقدة ومتعددة الأوجه تتأثر بعوامل وديناميكيات اجتماعية، وثقافية، واقتصادية وتكنولوجية وحتى سياسية.
وإذا كان ثمة تلازم بين تطور النظم التعليمية والاحتياجات والتطلعات المتغيرة للمجتمعات، فإن تقادم مؤسساتنا التعليمية في العراق وإبعادها القسري على مدى عقود من الزمن بسبب الصراعات والحروب العبثية عما يحصل من تطور في نظم التعليم العالي في العالم قد أدى إلى إحداث فجوة بين قدرة جامعاتنا و متطلبات الجودة الأكاديمية.
ومن هنا بات لزاماً التفكير في إيجاد حلول حقيقية لإصلاح بنية مؤسساتنا الأكاديمية من خلال الإفادة مما يجري في العالم من مبادرات إصلاحية في صناعة التعليم العالي، مما استدعى منا الذهاب إلى تطبيق التجربة الأوروبية في إصلاح التعليم العالي التي يطلق عليها (عملية بولونيا) التي بدأ تنفيذها في أوروبا منذ نهاية تسعينيات القرن المنصرم لتبدأ معها مجموعة من الإصلاحات الجوهرية في أطر التعليم العالي والقرارات الديناميكية التي أحدثت تغييراً هاماً في الأنظمة التعليمية الأوروبية.
إن (عملية بولونيا) تحمل أهدافاً ودلالات لدى مؤسسات التعليم العالي في أوروبا، ومنها أن عملية التجديد والإصلاح قد انطلقت من أقدم جامعة هناك في أثناء مؤتمر جامعة بولونيا الإيطالية العريقة التي تعد أقدم جامعة في منطقة الاتحاد الأوروبي وأيضاً أن الجامعات لا ينبغي أن تخجل أو تتردد في تطوير أنظمتها التعليمية على وفق ما تقتضيه العملية الجديدة من إجراءات هادفة إلى تنسيق أنظمة ومعايير التعليم العالي في جميع أنحاء أوروبا من أجل إنشاء منطقة التعليم العالي الأوروبية (EHEA) لتكون أكثر توافقاً وترابطاً في مجالات التعاون والاعتراف المتبادل.
إن عملية بولونيا ليست نظاماً تعليمياً بحد ذاتها بل هي إطار يتضمن مجموعة من الإصلاحات والاتفاقيات بين الدول التي تركز على جوانب مختلفة من التعليم العالي، منها اعتماد هيكل درجة مشتركة من ثلاث مراحل – البكالوريوس والماجستير والدكتوراه – لتسهيل تنقل الطلاب وقابلية مقارنة المؤهلات، واستخدام نظام تحويل وتراكم الرصيد الأوروبي (ECTS) لقياس ومقارنة عبء عمل الطلاب مما يسهل على الطلاب تحويل الاعتمادات بين المؤسسات والبلدان، وتنفيذ آليات واشتراطات الجودة وضمان تعليم متسق عبر المؤسسات والبلدان، وتعزيز تنقل الطلاب والموظفين من خلال مبادرات مثل برنامج Erasmus + ، الذي يشجع الطلاب وأعضاء الهيئات التدريسية على الدراسة والعمل في مختلف البلدان الأوروبية، وإنشاء نظام للاعتراف بالمؤهلات عبر الدول المشاركة، والسماح للطلاب بالاعتراف بشهاداتهم في البلدان ،وتشجيع التعلم مدى الحياة عن طريق توفير فرص تعليمية مرنة ومتنوعة والاعتراف بأهمية الاندماج في التعليم العالي وتعضيد إمكانية الوصول وتكافؤ الفرص.
لقد حققت عملية بولونيا كل تلك الأهداف بالنسبة للأوربيين، وللدول التي اتبعت هذا النظام من خارج الاتحاد الأوروبي التي سميت لاحقاً (أصدقاء عملية بولونيا) والتي يعد العراق عضواً مرشحاً فيها بناءً على ما أعلنته وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بتاريخ (12 كانون الثاني 2022) لتحسين وتجديد نظام التعليم العالي في العراق برؤية وطنية وأدوات عالمية معتمدة في كبريات الأنظمة التعليمية العالمية.
إن قرارنا البدء بهذه الإصلاحات لم يأت من فراغ، بل جاء بعد تقييم ومراجعة جادة للوضع الحالي لبيئة التعليم العالي ومؤسساتها التي ستشهد تحديثاً من حيث اعتماد المنهج الذي فرضته عملية بولونيا وهو المنهج القائم على الطالب Student – Based – Learning لأن المنهج القائم على الموضوع قد أصبح قديماً ولم يعد محفزاً لكل من الطالب والأستاذ وأن المنهج القائم على الطالب يضع اهتمامات واحتياجات وقدرات الطلاب في المقدمة ويهدف إلى تكييف التجربة التعليمية مع خصائص كل متعلم وتنظيم التعلم على وفق مهارات أو كفاءات محددة وتقدم الطلاب في الدورة الدراسية بناءً على إتقانهم الواضح للمهارات التي يقدمها هذا المنهج. ومن كل ما سبق نستطيع الاستنتاج بأن عملية الإصلاح التي أقرتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق هي حاجة وليست ترفاً، وذلك لأن تقادم النظام التعليمي وما يرتبط به من منهج يوجب تحديثاً على مستوى التقييم والجودة حتى تتحقق المواءمة مع حاجات الطالب والمجتمع، وأن الالتحاق بعملية الإصلاح التعليمي في أوروبا لها منافعها التي منها، على سبيل المثال لا الحصر، أن الطالب سوف يصبح بإمكانه أن يتنقل بسهولة بين الجامعات ومن الممكن أن يدرس أو يعمل مستقبلاً في دول الاتحاد الأوروبي من دون الحاجة إلى مقاصة علمية.
ومن مؤشرات التوفيق أن عملية إطلاق هذه الإصلاحات رافقتها جلسات نقاشية مع خبراء من منظمة اليونسكو الذين يعملون داخل العراق في مشروع تطوير التعليم المهني والتقني الممول بالكامل من الاتحاد الأوروبي حيث دعموا المشروع من خلال رسالة رسمية إلى الوزارة عن طريق مدير مكتب اليونسكو في بغداد.
ووسط هذا المناخ الإيجابي نترقب مشاركة وفد رفيع من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في أعمال مؤتمر وزراء التعليم في منطقة الاتحاد الأوروبي للتعليم العالي في منتصف مايو 2024 والمنتدى الذي سوف يقام على هامشه في العاصمة الألبانية (تيرانا) عرض تجربة العراق والدخول في الاتفاقيات والمناقشات المنظمة لهذه العملية والإفادة من الامتيازات التي توفرها هذه العملية بعد أن بدأ العراق يُدعى رسمياً للمشاركة بالاستبيانات الموجهة إلى الدول التي تتبنى عملية بولونيا.
إن المسؤولية الملقاة على عاتقنا تقتضي منا تكثيف الجهود وتوجيهها بصورة صحيحة حتى نحصد النتائج بوقت قياسي مقارنة مع ما استغرقته بعض الدول في عملية تأهيل مؤسساتها وتحولها باتجاه عملية بولونيا وإن إنجاز الدليل الشامل لتطبيق هذه العملية المشفوع بإطلاق حزمة من معايير الجودة المتناسبة مع معايير الجودة في منطقة التعليم العالي الأوروبية وتطوير مؤهلات التقييم والتقويم من شأنه أن يمكِّن جامعاتنا من التطور النوعي المنشود.