المحكمة الاتحاديّة تصون سيادة العراق الداخلية (كركوك) وسيادته الخارجية (خور عبد الله): البُعد الاستراتيجي للقرارات

     

    السفير الدكتور جواد الهنداوي

    أصبحت المحكمة الاتحادية العليا في العراق هي التي تُعبّر، بحق، عن ارادة الشعب،  دورها في تمثيل ارادة الشعب تخطى دور مجلس النواب،  وهذا ما يؤكّد مهنيتها وليس حزبيتها،  مثلما هو الحال لمجلس النواب، والذي هو، بحق، مجلس احزاب، ويمثّل الاحزاب اكثر مما يمثل ارادة الشعب، وهذا أمرٌ متوَقعْ، في ظل نظام سياسي تشوبه عيوب اساسية، وساحة سياسيّة ينقصها نضح و فكر و رؤية،  ومُهّددة بتدخلات خارجية مؤثّرة،  ولذلك حرصت الدول على ان يكون البرلمان بمجلسّين، مجلس نواب، يمثل الاحزاب، ومجلس أعيان او مجلس شيوخ، ويكون رقيباً على مجلس النواب،  و رقيباً على قراراته و القوانين، التي يُشّرعها.
    أصبحت المحكمة الاتحاديّة العليا “محكمة الشعب”، لانها تعبّر عن تطلعّات الشعب وعن ضميره،  واصبحت

    محكمة الدولة والسيادة، لانها تراقب و تحافظ على سيادة العراق، وعلى وحدة اراضية ومنافذه.
    أصدرت المحكمة،  قبل ثلاثة او اربعة ايام،  قراريّن مهمّين ؛ الاول يمّسُ السيادة الداخلية و وحدة العراق، والمتعلق في محافظة كركوك،  والثاني يمّسُ السيادة الخارجية،  والمتعلق بخور عبد الله مع الكويت. وموضوع القراريّن (سيادة داخلية و سيادة خارجية) هو من صُلب عمل و مسؤوليات المحكمة.
    ما يخصُ القرار الاول،  صَدَرَ في ٢٠٢٣/٩/٤،  وبموجبه اوقفت تنفيذ قرار رئيس الوزراء المتعلق بأخلاء مقر قوات العمليات المشتركة في كركوك،  وتسليمه الى الحزب الديمقراطي الكردستاني،  ويعتبر القرار مُلزماً و نهائياً لجميع الاطراف والمسؤولين. القرار، بكل تأكيد، لا يسّرُ الحزب الديمقراطي الكردساني، و جمهور كبير من الكُرد،  والخلاف ليس على مقر او منصب محافظ،  الخلاف مع المركز او مع العراق بكل مكوناته،  وبضمنهم بعض الكرد، حول هويّة كركوك، والتي يعتبرها الكُرد، وكما يطالبون، كردية وكردستانية.
    ردود فعل الكُرد الميدانيّة ( تظاهرات وهتافات)، والسياسيّة (تصريحات تدين قرار المحكمة) تُبيّن بأنَّ موضوع المقّر هو واجهة لنوايا الاخوة الكرّد في العمل لضّم كركوك، والتصّرف سياسياً و إدارياً واجتماعياً، وانطلاقاً من المقّر، بأعتبارها كُردّية و كردستانيّة. وعلينا ان نتصّور التحديات والمشاكل الامنيّة وغيرها التي سوف يواجهها سكّان المحافظة الخليط من العرب والتركمان والكُرد.
    المحكمة بقرارها جنّبت المحافظة وسكّانها والعراق من بوادر فتنة. القرار أفشلَ تسويّة او صفقة سياسيّة، غير دستورية، وعلى حساب سيادة و وحدة العراق، لجأت اليها الاحزاب و الكتل السياسية من اجل تشكيل الحكومة.
    قرار المحكمة سيكون للسياسيين،  درساً وعبّرةً، في المستقبل،  مفادهما هو أنَّ اي اتفاق او صفقة سياسية تستعين بها الاحزاب،  من اجل تشكيل الحكومة،  و تتضمن ( واقصد الصفقة او الاتفاق ) بنود او شروط تمّسُ وحدة العراق وسيادة العراق، ستنال هذه الصفقة صفعة من لدّنَ المحكمة الاتحادية. وهذا هو الدور الحقيقي للمحكمة : الحفاظ على وحدة وسيادة العراق.
    قرار المحكمة بموضوعه ( كركوك ) و باثاره، ليس قراراً آنياً، له، بكل تأكيد، بعداً مستقبلياً مهماً، الا وهو عراقيّة المحافظة و وأد ايّة محاولة لأكردتها او استعرابها.
    اصبحَ مصير المحافظة،  و بعد هذا القرار،  في عُهدة المحكمة الاتحادية، شأنها شأن حدود العراق و منافذ العراق و سيادة العراق.
    الغريب من الاخوة الكرد هو سعيهم لتكون كركوك كُرديًة و كردستانية ( اي ضمن الجغرافية السياسية لكردستان ) وليست عراقية،  علماً يقطنها ويسودها عرب وتركمان،  بَيدَ انهم ( و اقصد الكرد ) اعترضوا، عند صياغة الدستور الاتحادي العراقي، عام ٢٠٠٥،  على ان يوصف العراق بدولة عربية،  و وافق العراقيون العرب على عدم ذكر عبارة ” العراق دولة عربية “،  و استبدلوها بعبارة ” العراق بلد متعدد القوميات والاديان و المذاهب …”. ( المادة ٣ من الدستور ). اي استكثروا على ذكر الهوية القومية و الجغرافية للعراق ( باعتبار الاكثرية من سكانه عرب )،  و يصرون اليوم في نواياهم و مواقفهم على تجريد محافظة كركوك من هويتها العراقية.
    ما يخصُ القرار الثاني،  حيث قضت المحكمة بعدم دستورية قانون تصديق اتفاقية تنظيم الملاحة البحرية في خور عبد الله،  مع الكويت،  رقم ٤٢ لعام ٢٠١٣،  والذي صَدَرَ تنفيذاً لقرار مجلس الامن المرقم ٨٨٣ لعام ١٩٩٣. جاء قرار المحكمة الصادر بتاريخ ٢٠٢٣/٩/٥،  بعد عشرة اعوام من تصديق الاتفاقية، و بناءاً على شكوى قدّمها عضو في مجلس النواب العراقي،  وفي ظرف تعالت فيه اصوات مهنيّة مختصة وشعبيّة رافضة للاتفاقية،  وتجد فيها غبن وتجاوز و امتهان لسيادة العراق.
    الحُجة الدستورية التي ساقتها المحكمة لتبرير قرارها هو ان قانون تصديق الاتفاقية لم يحظْ بالاغلبية المطلقة لمجلس النواب. قرار المحكمة لم يتناول بنود الاتفاقية، و لا كيفية ترسيم الحدود و الملاحة وفقاً للاتفاقية و وفقاً لقرار مجلس الامن، المشار اليه في اعلاه،  وانما تناول قانون تصديق الاتفاقية فحكمت المحكمة بعدم دستورية القانون. قرار المحكمة يبطلُ تنفيذ الاتفاقية ولكن لا يلغي الاتفاقية. المحكمة، بقرارها هذا،  جعلت للسلطة التنفيذية وللشعب مخرجاً للتخلّص من تطبيق الاتفاقية، دون التطرق الى بنودها والى اساسها الاممي المتمثل بقرار مجلس الامن المشار اليه اعلاه.
    أصبحَ مصير الاتفاقية مرهوناً بأرادة مجلس النواب، وليس بأرادة السلطة التنفيذية. وسيجدُ مجلس النواب الحالي و القادم حرجاً في الاقدام على تصديق اتفاقية مُجحفة و مُخلّة بسيادة العراق و مصالحه. لا مجلس الامن و لا امريكا و لا الكويت لديهم سلطة في فرض ارادتهم على مجلس النواب لاجباره على تصديق الاتفاقية. وستعود مسألة ترسيم الحدود البحرية بين العراق و الكويت الى مربعها الاول، قبلَ قرار مجلس الامن رقم ٨٣٣ في عام ١٩٩٣. بأختصار قرار المحكمة حرّر العراق من الاتفاقية.
    ماذا عن موقف الكويت؟
    طريقان وعِران امام الكويت،  كلاهما دون مخرج.
    الاول هو الطلب الى السلطة التنفيذية ( رئاسة الوزراء)،  بتنفيذ الاتفاقية،  والسلطة ستلتزم بالدستور وتطمّئن الكويت وتوعد بعرضها على مجلس النواب،
    وستكون فرصة سانحة لمجلس النواب برفضها لاسباب قانونية،  منها،  ان الاتفاقية هي عقد اذعان،  و فُرضتْ بالقوة وبالتهديد على العراق،  وأنَّ مجلس الامن تجاوز حدود صلاحياته حين شكّل لجنة لترسيم حدود بين بلدين سيادييّن،  و حُججْ قانونيّة اخرى.
    و الثاني هو اللجوء الى المحاكم الدولية المختصة ( محكمة العدل الدولية او المحكمة الدولية لقانون البحار )،  و ستكون للعراق فرصة ايضاً للطعن امام المحاكم الدولية بشرعية و قانونية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين وفقاً لقرار مجلس الامن المرقم ٨٣٣، في ١٩٩٣،  و الدفع بحجّج قانونية و أهمها ان الترسيم تّمَ من قبل مجلس الامن،  وليس من صلاحيات مجلس الامن ترسيم حدود بين بلديّن،  ولم يكْ للعراق دوراً في اللجنة الاممية التي قامت بترسيم الحدود، كما ان الاتفاقية فرضت بالقوة على العراق، و ان النظام الذي كان يحكم العراق لم يكْ ممثلاً لارادة الشعب، ولم يكْ منتخباً من الشعب، وهذا ما كانت تعترف به كافة الدول العظمى.
    كاتب عراقي

    شاركـنـا !
    
    التعليقات مغلقة.
    أخبار الساعة