الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر
أكد البيان الختامي للقمة العربية الإسلامية في الرياض “ضرورة تحرك المجتمع الدولي لإطلاق عملية سلمية جادة وحقيقية لفرض السلام في فلسطين على أساس حل الدولتين الذي يلبي جميع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، لا سيما حقه في تجسيد دولته المستقلة ذات السيادة على خطوط الرابع من يونيو حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية”.
هناك من كان يفضّل أن يكون المؤتمر للرؤساء العرب دون غيرهم، وهناك من يعتبر البيان “لم يكن بمستوى تطلعات الشارع العربي” وما يتطلبه الوضع الراهن في غزة، وغيرها من التقديرات المختلفة التي رأت في مجرد “التنديد” و”الشجب” و”الرفض” و”الدعوة لمؤتمرات” هي أدوات دبلوماسية وسياسية لا تليق بالكارثة الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي جهارا نهارا على مسمع ومرأى من العالم أجمع.
بشكل عام، ومع احترامي وتقديري الشديد لكل التقييمات والخطابات لجميع الرؤساء، الذين أثق في تقديرهم للموقف، وكذلك لجهود المملكة العربية السعودية، فإني أعتبر أن المؤتمر ليس سوى خطوة أولى، ربما تأخرت، حيث كنت أتمنى أن تعقد فوراً، خلال أسبوع واحد من قصف المستشفى الأول (المعمداني) في غزة. إلا أنني أعتبر نتائج المؤتمر هامة ومثمرة، لثقتي الكاملة في أنه إذا ما استمرت الأوضاع على ما هو عليه في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فإن مؤتمراً استثنائياً لقمة عربية خلال الأسبوعين القادمين سيكون حتمياً.
أرى أن نتائج المؤتمر والهدف من البيان الختامي التفصيلي والموسع هي ضرورية جداً، لكونها رسالةً واضحةً موجهةً للإدارة الأمريكية، وهي رسالة غير محصورة في المواجهات العسكرية والحرب التي تخوضها المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، بل هي رسالة أعمق وأوسع بكثير، وتمس الأهداف والمصالح الأمريكية في المنطقة. وقد تصرف الرؤساء العرب بحكمة بإرسالهم هذه الرسالة المفصلة (من خلال البيان الختامي) من منصة العالم الإسلامي، لإعطاء فرصة ومجال للإدارة الأمريكية الحالية للتفكير بأن هذا هو موقف العالم العربي والإسلامي معاً، وإذا لم يتم الالتفات إليها واحترامها، ستكون النتيجة بالفعل نشوب حرب إقليمية واسعة، تطال تبعاتها جميع المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وسائر العالم الإسلامي، وربما ستخرج، بالإضافة إلى ذلك، جميع القواعد العسكرية الأمريكية من المنطقة، وستكون النتائج كارثية على الحليفة إسرائيل قبل أي أحد آخر. على الولايات المتحدة الأمريكية الآن أن تحمي إسرائيل من حماقة القيادة الإسرائيلية، أن تحمي إسرائيل من نفسها.
كذلك أوضح زعماء الدول العربية والإسلامية بأن تدهور الأوضاع ونشوب حرب إقليمية، في ضوء الوضع الدولي الراهن، على خلفية الأحداث في أوكرانيا، والتي وضعت العلاقات الروسية الأمريكية في أسوأ أوضاعها على الإطلاق، يمكن أن يتسبب في نشوب حرب عالمية ثالثة، خاصة أن هناك قواعد أمريكية في عدد من الدول المنطقة، فيما تتواجد قوات روسية في سوريا على سبيل المثال.
لعل أهم رسالة تم توجيهها للإدارة الأمريكية هي أن العالم العربي والإسلامي يرفض نهائياً أي محاولات لتحجيم ما يجري اليوم في غزة بأنه مجرد “حرب مع حماس” وأن هذا ليس سوى اجتزاء مخل من السياق العام للقضية الفلسطينية، التي تمتد جذورها التاريخية وتستند إلى جوهر احتلال الأراضي وتهجير السكان الأصليين وقمع شعب بأكمله وممارسة سياسات الفصل العنصري وتعجيز السلطة الفلسطينية وحرمان قطاع غزة من الحياة وحصاره زهاء 17 عاما. إن أحداث 7 أكتوبر، ونشوب معركة طوفان الأقصى هي تواصل منطقي لسلسلة النضال الفلسطيني والمقاومة ضد المحتل وضد توسعه الاستيطاني غير الشرعي من وجهة نظر القانون الدولي.
وواضح للجميع أن إسرائيل بقيادتها الحالية الأكثر تطرفاً في تاريخ البلاد لا تفرّق بين شعب القطاع وشعب الضفة، وأنها تستهدف جميع الفلسطينيين، وهو ما دفع جميع الشعوب العربية والإسلامية والأحرار حول العالم ليس فقط في أمريكا اللاتينية وإنما أيضاً في أوروبا وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية للوقوف بجانب هذا النضال العادل والشرعي، الذي يخوض معركة التحرير، التي بدأت من جنين في الأيام الأولى من هذا العام، وكنت قد كتبت فوراً مقالاً بعنوان “المواجهة وتخليد شهداء جنين يكون بإعلان 2023 عام فلسطين فوراً” نشر على موقع “رأي اليوم” ونشرت حينها قائمة بأسماء أول الشهداء وبينهم امرأة مسنة هي الشهيدة أم زياد، أول شهيدة من النساء والأمهات في بداية هذا العام (أصبح عدد الشهداء المدنيين قبل نهاية العام بقليل أكثر من 11 ألف شهيداً بينهم 5 آلاف من الأطفال، ولا زال الآلاف يرزحون تحت الأنقاض)، وطالبت بإعلان هذا العام 2023 عام فلسطين، وهو ما يحدث اليوم فعلياً على الأرض في عدد من البلدان والمدن في جميع أنحاء العالم، فيما تخرج الشعوب تضامناً مع الشعب الفلسطيني، حيث لم تقل الأعداد المشاركة في مسيرة يوم أمس بالعاصمة البريطانية لندن عن 300 ألف متضامن.
إن كل محاولات الإدارة الأمريكية وحلفائها تشويه النضال الفلسطيني، وربطه بما تسميه “الإرهاب” فشلت، واليوم بدأت دول وشعوب العالم، أكثر من أي وقت مضى، تتفهم وتعي التسلسل التاريخي للأحداث، وبدأ الشباب في جميع أنحاء العالم يقرأون عن أصول القضية الفلسطينية، وتاريخ النكبة، والتهجير، والاحتلال، والحروب العربية الإسرائيلية، وغيرها من القضايا التي تفنن الغرب والصهيونية العالمية في إخفائها، والتعامل معها بوصفها “تفاصيل غير مهمة”، إلا أنها تعود اليوم لتتصدر المشهد، وتعرض قضيتنا العادلة أمام العالم أجمع. أصبح الجميع يرى بوضوح شديد حق شعبنا الفلسطيني في خوض معركة التحرير، ويرى ضرورة أن يضطلع العالم بمسؤوليته الكبيرة لمنح الشعب الفلسطيني حقه كبقية شعوب العالم في التمتع بدولة مستقلة عاصمتها القدس الشريف، وتحقيق ذلك بأسرع وقت ممكن تفادياً لوقوع مزيد من الضحايا خاصة المدنيين.
ولا يسعني هنا سوى الإشارة إلى أن ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية من تورط في القتل العمد والإبادة للأطفال الفلسطينيين في غزة، وعملية التصفية الجسدية للشعب الفلسطيني بحجة “القضاء على حماس”، يقوض أي جهود “وساطة” أو ما تدعو إليه من “ديمقراطية” أو “حرية”، وقد خلع الغرب جميع برقع الحياء، وانكشفت كل حيل الرهان على الخلافات أو الانشقاق في الساحة الفلسطينية، فالشعب الفلسطيني اليوم واحد، والأمة العربية والإسلامية اليوم واحد، وأحرار العالم اليوم واحد في مواجهة آلة القمع الصهيونية التي تقف وراءها الولايات المتحدة، وبدونها لا تستطيع أن تخطو خطوة واحدة. إن شعبنا الفلسطيني اليوم، أكرر، هو شعب واحد يخوض نضالاً مقدساً من أجل التحرير والاستقلال.
والبيان الذي أصدرته القمة العربية الإسلامية في الرياض يوم أمس يعبر عن موقف العالم بأجمعه، ربما باستثناء سبع أو عشر دول برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية تقف منعزلة ضد الإرادة الدولية العظمى، في عجرفة وغطرسة للقوة أمام الحق بالقتل المتعمد للشعب الفلسطيني أطفالاً ونساءً ومرضى ومسنين على يد العصابة الصهيونية التابعة للإدارة الأمريكية الحالية.
سيأتي اليوم الذي سيتضح للعالم بأسره أن الشعب الفلسطيني يساهم من خلال ضحاياه وقوافل شهدائه من الأطفال والنساء في تحرير البشرية من الهيمنة الصهيونية الأمريكية وانتقال العالم إلى عالم جديد متعدد القطبية تحترم فيه حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، ويحترم سيادة الدول بصرف النظر عن حجمها، وحقها في اختيار كيف تعيش.
ختاماً، أقول إنها الفرصة الأخيرة للإدارة الأمريكية لمراجعة سياستها، والوقف الفوري لعمليات التصفية الجسدية للشعب الفلسطيني، وهذا هو جوهر البيان الختامي المفصل للقمة العربية الإسلامية في الرياض، ونحن بانتظار القمة العربية الاستثنائية خلال أسبوعين، والتي أرجو أن تخرج بنتائج محددة تلبي تطلعات جميع الشعوب العربية والإسلامية ومحبي العدالة والحرية للشعب الفلسطيني وباقي شعوب العالم .