الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر
تبدأ اللجنة الوزارة المكلفة من القمة العربية الإسلامية تحركا دوليا لوقف الحرب على غزة، فيما توجه وزراء خارجية الدول الأعضاء، اليوم الاثنين، إلى الصين، في زيارة تستمر يومين ويصلون بعدها موسكو، كبداية لجولة تشمل عددا من الدول الكبرى.
وتعوّل اللجنة على إقناع الدول الغربية بتغيير موقفها الداعم لإسرائيل، ودفعها للضغط عليها لوقف العدوان المستمر منذ أكثر من شهر على سكان قطاع غزة.
وكانت القمة المنعقدة في الرياض، 11 نوفمبر الجاري، قد كلّفت وزير خارجية المملكة العربية السعودية فيصل بن فرحان، بصفتها رئيسة القمتين العربية والإسلامية، وكل من وزراء خارجية مصر والأردن وقطر وتركيا وإندونيسيا ونيجيريا وفلسطين وكذلك الأمينين العامين للجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، ببدء تحرك فوري باسم جميع الدول الأعضاء لبلورة تحرك دولي لوقف الحرب على غزة، والضغط من أجل إطلاق عملية سياسية جادة وحقيقية لتحقيق السلام الدائم والشامل وفقا للمرجعيات الدولية ذات الصلة.
لكن ما ألمحه حولي من تخبط في الآراء والتقييمات والمواقف فلسطينيا وعربيا ودوليا حول الوضع في فلسطين والجوار، وما أراه أحيانا من خيبة أمل لدى البعض، وامتعاض من البعض الآخر بما يرونه تقصيراً في أداء الواجب، وضرورة “فتح جبهات الدول المجاورة لفلسطين لمساندة المقاومة الفلسطينية”، بل ومطالبة آخرين لإيران بالمشاركة المباشرة في القتال، يدفع البعض حتى إلى إلقاء التهم يمنة ويساراً بالعمالة والخيانة والتخاذل.
ولا أبالغ بالقول إن هذا التخبط أو “الضياع” إن شئت لا يقتصر على المواطنين العاديين، بل أحياناً ما يمتد ليشمل سياسيين ودبلوماسيين، يعيش كثير منهم في حالة من القلق وفقدان البوصلة، بل وفقدان الثقة بقواعد وقوانين وتقاليد الدبلوماسية والسياسة الدولية أمام ما يرونه من عجز دولي فاضح للتأثير على وقف الجرائم الإسرائيلية ضد البشرية، وهي جرائم لم تعد تحتاج حتى إلى تحقيق فهي موثقة بالصوت والصورة في الوقت الحقيقي Realtime، وبالعيون المجردة، وبشهادات العاملين في المؤسسات الدولية التابعة للأمم المتحدة ومنظمة الصحة الدولية وغيرها، الذين أحياناً ما يتواصلون معي متسائلين عن كيفية أن يحدث كل هذا في مطلع القرن الحادي والعشرين بهذا الحجم، ولماذا لا تتجاوب الأمم المتحدة مع الاحتجاجات الضخمة في غالبية بلدان العالم ضد ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من تطهير عرقي وإبادة جماعية.
وددت لو أجيبهم أن من يقوم بهذه الجرائم اليوم هو نفس من كان يقوم بتصفية الملايين في اليابان وفيتنام ويوغوسلافيا وأفغانستان والعراق وليبيا، الولايات المتحدة الأمريكية، بغض النظر عن اليد التي تقوم فعلياً بالبطش على الأرض، وبغض النظر عمن يشاركها بذلك. والمسؤولية الأولى في كل هذا إنما تقع على الإدارة الأمريكية، إلا أنني أتردد في الإجابة، مكتفياً بالقول إنها كارثة ترتكب بحق شعبي الفلسطيني، وقد كتب علينا نحن الفلسطينيين، فيما يبدو، التضحية بالآلاف كي يستيقظ العالم من واقعه الحالي البائس، وعجز المجتمع الدولي عن القضاء على الإرهاب الدولي والجرائم التي ترتكبها الولايات المتحدة ضد شعوب ودول بأكملها.
على الجانب الآخر من العالم، التقى الرئيس الأمريكي جو بايدن نظيره الصيني شي جين بينغ، في لقاء استمر أربع ساعات متواصلة، حاول فيها بايدن إقناع الرئيس الصيني بالابتعاد عن روسيا مقابل إغراءات ضخمة للتعاون الاقتصادي، يمكن تلخيصها بتقاسم خيرات العالم بينهما، وما أن خرج من الاجتماع، وفي مؤتمر صحفي، وصف الرئيس الصيني مرة أخرى بـ “الديكتاتور”. يبدو أنه عجز عن إقناعه، فأصبح الرئيس الصيني فوراً بالنسبة له “ديكتاتوراً”.
ترى هل وصفه بايدن بذلك لرغبة شي جين بينغ، ويشاركه في ذلك “ديكتاتور” آخر هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في سيادة العدالة واحترام سيادة وحقوق جميع دول العالم وحريتها في اختيار طريقها الوطني سعيا للازدهار بصرف النظر عن حجمها وموقعها الجغرافي وثرواتها ومواردها؟ أم وصفه بذلك لأن شي جين بينغ أصر على توجهات النظام العالمي الراهن نحو التعددية القطبية، وإنهاء تحكم النظام البنكي الأمريكي والعملة الأمريكية باقتصاد العالم؟
لا يفارقني التفاؤل بشأن انتصار جبهة روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا (دول البريكس)، ومعهم الدول المنضمة حديثاً إلى المنظمة، في تحويل العالم إلى التعددية القطبية. وأنا على يقين بأن كل محاولات وقف هذه العملية التاريخية الموضوعية سوف تفشل، ولا أتوقع أن تتراجع أو تهزم الصين وروسيا تحت أي ظرف من الظروف.
كذلك أرى أن الأزمة الراهنة في فلسطين معبرة وكاشفة وفاضحة وكأنها القشة التي قصمت ظهر البعير، ولا يمكن أن تنتهي هذه الأزمة إلا من خلال انتهاء الوضع الدولي الحالي المتوتر، فلن يستطيع الآن أحد أن يوقف الإدارة الأمريكية الحالية عن استمرارها بتصفية أبناء شعبنا في غزة والضفة الغربية، حتى وإن لجأت تلك الإدارة لبعض “الهدنات الإنسانية” كما يسمونها، أمام ضغط جماهير المجتمع الدولي، لكن الإدارة الأمريكية بيد إرهاب الدولة الإسرائيلية سوف تستمر في مخططها الخبيث. ولن تتوقف الحرب، ولن يتوقف الصراع سوى بقدوم إدارة تعترف وتتقبل نظام العالم الجديد، الذي سيعيد للأمم المتحدة دورها وهيبتها، وحينها يمكن الحديث عن تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي الجديد، غير هذا الذي تسيطر عليه واشنطن وأتباعها، مجلس أمن يمثل جميع القارات، وتتخذ قراراته بالأغلبية دون “الفيتو” الأمريكي.
إننا اليوم أمام لحظة مصيرية تاريخية لمستقبل البشرية، يقف فيها شعبنا الفلسطيني البطل أمام آلة القمع الإسرائيلية الأمريكية دفاعاً لا عن أرضه وشرفه وعرضه وماضيه وحاضره ومستقبله، وإنما يدافع، في الوقت نفسه، عن قيم الإنسانية والعدل والحضارة والحق والخير والسلام. لهذا فإن القضية شديدة الحساسية، وأكبر بكثير من أي تدخل عربي أو إيراني، فما يحدث من جرائم ترتكبها واشنطن في فلسطين، وأكرر واشنطن، وليس إسرائيل بمفردها، هي محاولات يائسة بائسة لوقف تحول العالم من أحادية القطبية إلى التعددية القطبية. وتعي إسرائيل، ويعي نتنياهو جيداً أن في الأجواء الدولية الجديدة، ستنتهي كل هذه الغطرسة والطموحات المريضة باستمرار هيمنة الصهيونية الأمريكية على العالم.
وروسيا في مقدمة هذا الصراع بما بدأته بعمليتها العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، حيث أن وقف تمدد حلف “الناتو” شرقاً، كان الشرارة التي اندلعت منها تلك المواجهات العالمية بين القوى الرجعية، التي تتشبث بالعالم أحادي القطبية، والقوى التقدمية التي تمضي بالعالم قدماً نحو التعددية القطبية. وبدون انتصار روسيا والصين ومجموعة “بريكس” لا يمكن أن ينال شعبنا الفلسطيني حقوقه الوطنية كاملة، لتبقى القضية الأساسية اليوم هي كيفية تخفيف معاناة شعبنا الفلسطيني البطل، وهي المهمة الملقاة اليوم على عاتق اللجنة الوزارية المكلفة من القمة العربية الإسلامية.
أما من يحملون مسؤولية الضحايا والدمار لحماس، فأقول لهم إن أهل غزة أنفسهم، فيما نرى من تسجيلات مصورة لهم، قرروا افتداء الأقصى وتحرير الأرض بأبنائهم وأطفالهم وأمهاتهم، ومن لا يستوعب ذلك حتى الآن لا يدرك جوهر القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، صراع الأرض المنهوبة، الذي لن ينتهي سوى بعودتها. إن هذه الروح الفدائية تلقى اليوم دعماً وتأييداً من جميع أنحاء العالم، وعادت القضية الفلسطينية لتصبح القضية الرئيسية على مستوى العالم، ولن تذهب دماء شهدائنا الأبرار هباءً، وهي تسير في شلال دماء جميع الشهداء الفلسطينيين منذ 75 عاماً.
إننا كفلسطينيين شعب يحب الحياة، لكنه لا يهاب الموت، يحب السلام، لكنه يكره الظلم، ونحن نشكر كل من يقف اليوم ويدعم نضالنا ويواسينا، لكننا لم ولا نريد الدمار لأحد، لا سيما للبنان، التي قدمت الكثير من أجل قضيتنا ومن أجل شعبنا الفلسطيني. ونحن على ثقة تامة أن تضحياتنا وصمودنا والدعم الجماهيري الواسع لنضالنا سيحافظ على حقوقنا الوطنية كاملة، بزوال الهيمنة الصهيونية الأمريكية والأحادية القطبية، وهو ما سيحدث إن شاء الله خلال سنة أو سنتين قادمتين.
وما نراه من تطورات سريعة تشير إلى سعي الولايات المتحدة وتابعيها الغربيين إلى القضاء النهائي على القضية الفلسطينية، لاعتبارهم أن جهود حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً هو مفتاح انتقال وقبول الشرق الأوسط والبلدان العربية لنظام التعددية القطبية، ولا أبالغ هنا بالقول إن الإدارة الأمريكية الحالية وأتباعها قد اتخذوا هذا القرار بتحدي الجميع، باستخدام الأساطيل وحتى الأسلحة النووية للحيلولة دون قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وتعزيز الهيمنة الكاملة على العالم العربي وإخضاعه لإرادتها بشكل كامل.
وما اطلعت عليه من معلومات تشير إلى أبعد من ذلك، حيث يتم الآن تهديد كل من مصر والأردن بالتجويع والإفلاس، ويهددون لبنان بالتدمير، ويهددون دول الخليج بعقوبات اقتصادية. لهذا فإن اجتماع اللجنة الوزارية التي تزور الصين اليوم هو أمر مهم للغاية، لا سيما من حيث التوقيت ومن حيث الوجهة، تعبيراً موقف مبدئي لقمة الدول العربية والإسلامية. فالقضية الفلسطينية ليست فلسطينية، وإنما هي عربية إسلامية دولية إنسانية عامة، مثبتة بقرارات شرعية من هيئة الأمم المتحدة، وأي تلاعب أو استهتار بذلك مرفوض نهائيا.
لن تتمكن واشنطن وتل أبيب تمرير ما يطمحان إليه من إيقاف التحولات الجذرية في العالم.