ذو الفقار سيف
تؤيد معظم مراكز الدراسات الغربيَّة، بما فيها الامريكيَّة، أنَّ ما حدث في السابع من أكتوبر كان هزيمة استراتيجية كبيرة للقوة الاسرائيليَّة الغاشمة، في جنوابها المختلفة الامنيّة والعسكريّة والسياسيّة، وان دخول المقاومة الفلسطينية البطلة بعمق 40 كيلومترا داخل حدود الكيان وأسر جنرالات الحرب بملابس النوم كان في حقيقة الامر تعرية للقوة العسكريّة والامنيّة الاسرائيليّة وهي عملية غير مسبوقة في تاريخ الصراع مع اسرائيل.
في مقابل هذه الهزيمة كان من الطبيعي جداً ان تقوم اسرائيل بردود مختلفة ومتخبطة، وقد سعت الى حشد اكبر جهد ممكن لتعيد من خلاله ماء الوجه، الا ان الغريب في الامر، هو اسطفاف بعض شركات التكنلوجيا الكبيرة مع الكيان الغاصب، وتقديم تلك الشركات كل اشكال الدعم، سواء المادي او العلمي، في صورة تجرد تلك الشركات من ادعائاتها الكاذبة في دعم السلام والامن.
كثيرة هي الدلائل التي تبين تأييد عدد من كبرى الشركات العالمية للحرب المسعورة التي تقودها دولة الشر الاسرائيلية ضد اهالي فلسطين، وتحديدا في غزة، حيث قامت شركة غوغل بحذف تطبيق للهاتف المحمول من متجر تطبيقات غوغل بلاي يخبر المستخدمين بالشركات المويدة لإسرائيل والتي يجب مقاطعتها بسبب الحرب في غزة، بحسب تقرير لـ”نيوزويك”.
ونشر حساب “نو ثانكس بويكوت” (No Thanks Boycott) على منصة إكس، أن تطبيق الهاتف المحمول الخاص به المسمى نو ثانكس عُلق مؤقتا من متجر تطبيقات غوغل بسبب وجود سطر في الوصف يدين العدوان الاسرائيلي على غزة ويصفه بالوحشي.
وقال الحساب في منشور تضمن لقطة شاشة لسطر الوصف: “لقد عُلق التطبيق من متجر بلاي لهذه الجملة، لقد قمت بإزالته في التحديث الجديد وسيقوم متجر بلاي بمراجعته وإطلاقه مرة أخرى”.
وتقول الجملة: “مرحبا بكم في نو ثانكس، هنا يمكنك معرفة ما إذا كان المنتج الذي بين يديك يدعم قتل الأطفال في فلسطين أم لا، كل ما عليك فعله هو مسح الباركود أو كتابة الرقم التسلسلي في شريط البحث”.
طوفان الأقصى
وأثارت الحرب المستمرة التي الكيان الصهيوني الغاشم على غزة، بعد عملية طوفان الأقصى التي بدأت في 7 أكتوبر/تشرين الأول، مظاهرات كبيرة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وجميع أنحاء العالم، وذلك بسبب استهداف القصف الإسرائيلي لآلاف المدنيين الفلسطينيين وخاصة الأطفال.
وأُعلن عن تطبيق نو ثانكس لأول مرة على موقع إكس في 7 نوفمبر/تشرين الثاني، حيث قال مطوره: “أنا مطور فلسطيني وقمت بإنشاء تطبيق من شأنه أن يساعد الجميع في حركة المقاطعة، كل ما عليك فعله هو مسح الرمز الشريطي للمنتج وسيخبرك، وسيتم إصدار التطبيق قريبا على نظامي التشغيل أندويد و أي أو أس”.
وفي منشور آخر، شارك التطبيق مقطع فيديو يظهر شخصا يستخدم البرنامج لمسح الرمز الشريطي أثناء وجوده داخل أحد المتاجر لمعرفة ما إذا كانت الشركة تدعم إسرائيل بشكل نشط، وجاء في المنشور “حمّلوا التطبيق وساعدونا على مقاطعة المنتجات التي تدعم هذه المجازر”.
كيف تدعم شركات التقنية الكبرى الاحتلال الإسرائيلي؟
في الثالث والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلنت شركة غوغل عن إيقاف ميزة تتبع حركة المرور في الوقت الفعلي داخل الأراضي المحتلة وقطاع غزة، في تطبيق خرائط غوغل وتطبيق “ويز” (Waze) التابعين لها، وجاء هذا الإيقاف بناء على طلب خاص من جيش الاحتلال الإسرائيلي قبل البدء في إجراءات عملية الغزو البري للقطاع، وهو ما يبين بشكل حقيقي دعم تلك الشركة للحرب المسعورة ضد اهالي غزة، كم انصاعت شركة أبل أيضا للطلب نفسه وأوقفت تلك الميزة على تطبيق خرائط أبل المُستخدَم على هواتف إيفون.
اتخذت شركة غوغل نهجا مماثلا في أوكرانيا العام الماضي، بعد إعلان روسيا الحرب هناك، وأوقفت أيضا بيانات حركة سير المركبات والأشخاص في الوقت الفعلي، وفقًا لصحيفة بلومبرغ. حيث تعمل تلك الميزة في خرائط غوغل عبر دمج المعلومات الخاصة بالموقع والسرعة، التي تبثها الهواتف الذكية، في تطبيق الخرائط، ثم يستخدمها التطبيق ليظهر مدى كثافة حركة المرور في أحد الشوارع، أو مدى ازدحام أماكن معينة داخل المدينة، وكل هذا يحدث بصورة حية أو في الوقت الفعلي، وهو ما يمكن ان يؤدي الى كشف تحركات العدو الاسرائلي، لذا قامت غوغل بايقافه على الفور في فلسطين.
قبل بدء عملية الغزو البري للجيش الروسي لإحدى المدن الأوكرانية، اكتشف أحد خبراء
بالطبع تلك المساعدة من غوغل لجيش الاحتلال ليست مجرد مساعدة تقنية بسيطة، لكنها تدخُّل مباشر في الحرب ما يجعل غوغل شريكة -بقدر ما- في الدمار الحالي في قطاع غزة، وعموما هذه ليست المرة الأولى التي تساهم فيها شركات التقنية الكبرى في حرب الإبادة والاضطهاد ضد الفلسطينيين. أضخم شركات التقنية العالمية، مثل غوغل وأمازون ومايكروسوفت تشارك منذ سنوات بصورة مباشرة في العدوان على الشعب الفلسطيني، للدرجة التي تشعر معها أنها شركات تقنية عسكرية تعمل لصالح جهات بعينها.
ما وراء مشروع نيمبوس
في سبتمبر/أيلول العام الماضي، تظاهر العشرات من موظفي غوغل وأمازون أمام مكتب غوغل في مدينة نيويورك، احتجاجا على مشروع للحوسبة السحابية عُرف باسم مشروع “نيمبوس” (Nimbus). قبلها بأكثر من عام، في أبريل/نيسان 2021، وقَّعت حكومة الاحتلال على اتفاق مع شركتَيْ غوغل وأمازون لبناء مراكز بيانات إقليمية داخل الأراضي المحتلة لتقديم الخدمات السحابية، وبهذا ستضمن استمرارية الخدمة حتى إن تعرضت الشركتان لضغوط دولية لمقاطعة دولة الاحتلال فيما بعد، وقُدرت تكلفة المشروع بـ1.2 مليار دولار.
هذا بالطبع ما ذُكر رسميا في وسائل الإعلام حينها، لكن مشروع “نيمبوس” كان ينطوي على أكثر من مجرد مراكز بيانات إقليمية. ورغم عدم توفر تفاصيل رسمية كثيرة حول مشروع “نيمبوس”، فإن تقريرا لموقع “The Intercept”، صدر في شهر يوليو/تموز العام الماضي، استشهد بوثائق ومقاطع فيديو تدريبية داخلية من غوغل تشير إلى أن جزءا أساسيا من المشروع سيوفر لحكومة الاحتلال مجموعة كاملة من أدوات تعلم الآلة والذكاء الاصطناعي تقدمها منصة غوغل السحابية.
تلك الاحتجاجات، التي نظمها موظفو الشركتين، كانت تنتشر بالفعل في عدد من الولايات الأميركية أمام مكاتب غوغل، وكان السبب الأساسي وراءها مخاوف استخدام جيش الاحتلال لهذه التقنيات سلاحا في مراقبة الفلسطينيين وقمعهم ضمن نظام الفصل العنصري “الأبرتهايد” (apartheid) الذي تتبعه دولة الاحتلال منذ سنوات طويلة.
تعتمد الأجهزة العسكرية والأمنية لدولة الاحتلال بالفعل على أنظمة معقدة للمراقبة الإلكترونية والرقمية، وربما أشهرها هو نظام “الذئب الأزرق”، الذي يستخدم فيه جنود الاحتلال هواتف خاصة مزودة بالتطبيق، ويقومون بتصوير الفلسطينيين وبطاقات الهوية الشخصية بهدف إنشاء قاعدة بيانات رقمية عن مواطني الضفة الغربية المحتلة (4). لكن التقنيات الأكثر تطورا التي تقدمها عروض تحليل البيانات في أنظمة غوغل وأمازون من المرجح أن تؤدي إلى زيادة القدرات القمعية لجيش الاحتلال البغيض، الذي أصبح يعتمد على تلك البيانات بصورة متزايدة خلال السنوات الماضية.
تقنيات مراقبة أكثر تطورا!
لم يُكشف تقريبا عن أي شيء حول مشروع “نيمبوس” علنا خارج نطاق وجوده، وبقيت وظيفته الأساسية لغزا حتى بالنسبة لمعظم العاملين في الشركات التي طوّرته من الأساس. بيد أن مجموعة الوثائق التدريبية ومقاطع الفيديو الخاصة بشرح المشروع، والموجَّهة لموظفي الحكومة الإسرائيلية، وضحت لأول مرة مزايا منصة غوغل السحابية التي تقدمها الشركة لدولة الاحتلال من خلال المشروع.
توفر غوغل مجموعة كاملة من تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، تلك التقنيات ستمنح الكيان المُحتل قدرات أكبر في التعرّف على الوجوه، والتصنيف الآلي للصور، وتتبع مسار تحرك الأجسام، وحتى القدرة على تحليل المشاعر الذي تدّعي الوثائق أن بإمكانه تقييم المحتوى العاطفي داخل الصور والكلام والكتابة. تلك الإمكانيات ستزيد من قدرات دولة الاحتلال على فرض رقابة صارمة على المواطنين الفلسطينيين، بجانب معالجة كميات هائلة من البيانات.
ما أثار قلق موظفي الشركة أكثر، بشأن تقنيات المراقبة والتطبيقات العسكرية لهذا النظام، هو نموذج “AutoML”، وهي أداة أخرى من أدوات تعلم الآلة التي توفرها غوغل عبر مشروع “نيمبوس”. تعلم الآلة في أبسط تعريفاته هو تدريب نموذج ذكاء اصطناعي لكي يتعرف على الأنماط داخل مجموعة من البيانات، ثم يتمكن مستقبلا من التنبؤ الصحيح عندما يرى بيانات مشابهة لتلك التي تدرب عليها، يحدث هذا في مختلف الأنظمة، مثلا أنظمة التعرف على الصور، أو حتى إنتاج النصوص مثل نظام “GPT” الذي يعتمد عليه روبوت المحادثة “شات جي بي تي” الشهير.
المشكلة هنا أن تدريب مثل هذا النموذج من الصفر يحتاج إلى موارد كثيرة، سواء كانت موارد مالية أو أجهزة حاسوبية قوية للغاية. لكن بالنسبة لشركات بحجم غوغل وأمازون، لا يُشكِّل هذا الأمر أي مشكلة من الأساس، ولهذا تختارهما الدول والشركات الأخرى للاستفادة من أنظمة الذكاء الاصطناعي الجاهزة والمُدربة مُسبقا على مجموعة من البيانات، وهذا ما يقدمه في الأساس مشروع “نيمبوس”. لكن فكرة نموذج “AutoML” تسهل عملية تدريب تلك النماذج، بحيث يمكن للعملاء استخدام بياناتهم الخاصة ليُصمِّموا نموذجا من الصفر دون استهلاك موارد ضخمة، ودون الحاجة إلى بيانات أو خبرات الشركة المطورة من الأصل.
بخلاف ذلك، فإن النماذج الجاهزة التي تقدمها غوغل عادة ما تضع عليها بعض القيود التقنية، فمثلا قد يقتصر عمل النموذج على مجرد اكتشاف أن هناك وجها أمام الكاميرا، ولا يمكنه التعرّف على هذا الوجه ومطابقته بالبيانات التي يملكها وبالتالي التعرف على صاحب هذا الوجه. بينما مع نموذج “AutoML” يمكن لدولة الاحتلال الإسرائيلي الاستفادة من قدرات وإمكانيات غوغل الحاسوبية القوية لتدريب نماذج جديدة باستخدام البيانات الحكومية الخاصة التي تمتلكها بالفعل عن الفلسطينيين، مثل البيانات التي تجمعها من تطبيق “الذئب الأزرق”.
ولسوء الحظ، لا يقتصر الأمر على شركتَيْ غوغل وأمازون في هذا النطاق، لأن شركة مايكروسوفت لها دورها الذي تشارك به في تقنيات نظام الفصل العنصري التي يطبقها الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني.
دعم واسع من مايكروسوفت
العلاقة بين مايكروسوفت ودولة الاحتلال علاقة ممتدة وطويلة، يكفي فقط معرفة أن أول مركز بحثي تؤسسه الشركة خارج الولايات المتحدة كان في الأراضي المحتلة عام 1991 (5). تبع هذا بالطبع سنوات من التعاون والاستثمار في التقنيات العسكرية الخاصة بجيش الاحتلال. في عام 2002، عقدت مايكروسوفت صفقة على مدار ثلاث سنوات بقيمة 100 مليون شيكل (حوالي 26 مليون دولار حاليا) مع حكومة الاحتلال، وكانت الصفقة الأكبر من نوعها للكيان الصهيوني في ذلك الوقت، وجزءا من التعاقد وافقت الشركة الأميركية على تقديم عدد غير محدود من منتجاتها لصالح جيش الاحتلال ووزارة الدفاع، مع تبادل واسع للمعلومات.
لا تقف الأمور عند هذا الحد، فمن المعروف أن وحدات المراقبة التابعة لجيش الاحتلال، مثل وحدة الاستخبارات الإلكترونية 8200، تؤسس شركات ناشئة لأغراض عسكرية، كما تتولى تدريب قوى عاملة بخبرات تقنية ترغب بها شركات مثل مايكروسوفت. على مر السنوات الماضية، استحوذت مايكروسوفت على العديد من الشركات الناشئة التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وفي بعض الأحيان استعانت بفِرَق تلك الشركات، واستثمرت في شركات إسرائيلية أخرى. تشمل تلك الاستثمارات مثلا شركة “AnyVision”، وهي من أشهر الشركات الإسرائيلية التي تزود دولة الاحتلال بالكاميرات وبرمجيات التعرف على الوجوه لفرض الرقابة والفصل العنصري ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية.
خلال السنوات القليلة الماضية، استحوذت مايكروسوفت على شركات إسرائيلية تعمل في مجال الأمن السيبراني، مثل شركة “Aorato” عام 2014 مقابل 200 مليون دولار ، وشركة “Adallom” عام 2015 مقابل 250 مليون دولار ، وشركة “Hexadite” عام 2017 مقابل 100 مليون دولار ، وشركة “CyberX” عام 2020 مقابل 165 مليون دولار. كل تلك الشركات تصنع تقنيات للمراقبة والتجسس، وتعتمد على تقنيات عسكرية من جيش الاحتلال الإسرائيلي وتعمل مباشرة معه.
بالطبع كل ما ذكرناه هو مجرد أمثلة بسيطة على تعاون أكبر وأعمق بين شركات التقنية الكبرى ودولة الاحتلال في الاستهداف المباشر للفلسطينيين، رغم أن هذه الشركات تقدم دائما تعهدات بتجنب استخدام تقنياتها في الحروب وانتهاكات حقوق الإنسان. بالتأكيد نعرف الآن أن هذه ليست إلا مجرد ادعاءات لا تساوي قيمة الحروف التي كُتبت بها على صفحات ومواقع تلك الشركات!.
لقد بات علينا كشعوب عربية اصيلة، دافعت وماتزال تدافع عن وحد الشعب الفلسطيني، ان نسعى جاهدين لمقاطعة تلك الشركات بصورة او باخرى، لاسيما وان الاسواق العربية تمثل وجهة كبرى لتلك الشركات، وان عملية مقاطعتها ستؤدي الى انضاب جزء كبير من عمليات التمويل التي تقدمها للكيان الغاصب.