الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر
بداية أود أن أهنئ شعبنا الفلسطيني البطل في غزة والضفة الغربية بحلول شهر رمضان المعظم أعاده الله علينا جميعا باليمن والبركات.
يقول الحديث النبوي الشهير: “إذا لم تستح فاصنع ما شئت”، وما أراه حولي من تصريحات حمقاء ومجنونة من قبل الولايات المتحدة ودول الناتو تجعلني أضيف إلى صفة الحياء في الحديث الشريف، الجنون. فإذا لم تستح وأصبت بالجنون فاصنع ما شئت.
فنحن نرى بايدن يعلن “هزيمة روسيا”، وترامب يصرّح بأن المملكة العربية السعودية لم تكن لتعيش من دون حماية الجيش الأمريكي، دون أن يعي أن السعودية هي مكة المكرمة والكعبة الشريفة وغيرها من المقدسات الإسلامية التي تنتمي لعقيدة عمرها أربعة عشر قرنا من الزمان، بمعنى أن ترامب يقول إن الحضارة الإسلامية ومركزها مكة والمدينة المنورة وعمرها 14 قرنا، لم تكن لتكون موجودة دون وجود الولايات المتحدة الأمريكية التي ظهرت إلى الوجود منذ 3 قرون فقط. أليس هذا بجنون؟
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن عن أفكاره “النيّرة” بإرسال قوات من الناتو إلى أوكرانيا ضد روسيا، بينما يعلن المستشار الألماني أولاف شولتس عن تفكيره هو الآخر بإرسال قوات إلى أوكرانيا ضد روسيا، دون أن يفكر أي من هؤلاء السادة الأفاضل في أن تعداد الجيش الفرنسي 207.3 ألف عسكري، والجيش الألماني 192.2 ألف عسكري، والجيش البريطاني 156.2 ألف عسكري، بمعنى أن مجموع هذه القوات معا يبلغ 555.7 ألف عسكري، وهو ما يعني أن تعداد هذه القوات أقل من تعداد الجيش الأوكراني الذي يبلغ 900 ألف عسكري. ونحن نرى بأم أعيننا ما يحدث للجيش الأوكراني في أرض المعركة.
وبصرف النظر عن المعدات العسكرية والأسلحة الحديثة التي يمتلكها حلف الناتو، وبالنظر إلى نفي الإدارة الأمريكية جملة وتفصيلا لأي تدخل عسكري في أوروبا لصالح أوكرانيا، فلا أعتقد أن هذه التصريحات تقتصر على نقص في الحياء أو الدبلوماسية أو الكياسة من قبل هؤلاء الساسة، بقدر ما تعبر عن جنون مطلق مطبق، وخبل أحمق قد يسفر في نهاية المطاف عما لا يحمد عقباه، لبلدانهم وشعوبهم قبل أن يكون لروسيا وسكانها.
وقد جاء جنون بايدن وترامب معا في الوقت المناسب لفضح نوايا وحقيقة الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بسياستها الخارجية، والهدف من انتشار قواعدها العسكرية حول العالم، وابتزاز “الكاوبوي الأمريكي” للدول من خلال الدفع لتغطية تكاليف الأداة العسكرية الأمريكية من أجل السيطرة والتحكم بالعالم، وهو ما اعترف به دونالد ترامب جهاراً نهاراً أثناء حملته الانتخابية. أما الجد بايدن، فيؤكد بصوته الرخيم المتهالك على أن روسيا “قد هزمت بالفعل”، وأن قضية تايوان وكوريا الجنوبية “منتهية”، وأن وجود الولايات المتحدة الأمريكية يعني أنه لا قيمة للصين أو كوريا الشمالية أو لأي قوى وتحالفات دولية أخرى. إنه جنون العظمة، والاستهتار، والعجرفة الأمريكية التي تسمح لهذا المعتوه بالتعرض لشخص الرئيس الروسي، والقول بأنه “لا يجب أن يبقى في السلطة”، وانه “جزار” وغيرها من الأوصاف التي يواجهها الرئيس الروسي بالابتسام، وتمنياته بالصحة والعافية للرئيس المجنون حقا.
وكان الجنون في حالات شخصية ليؤثر على أسرة المريض، أو على المحيطين به من الجيران أو أثناء تواجده في الأماكن العامة. إلا أن جنون هؤلاء يضع العالم بأسره في يد مجموعة من البلطجية والمجانين، ويدفع به نحو مخاطر جمة وهائلة، قد تفضي إلى حرب واسعة النطاق تعصف بالأخضر واليابس.
لهذا وجب علينا إنقاذ مستقبل البشرية، والسعي نحو حماية أغلبية البلدان والشعوب المحبة للسلام من مغبة سيطرة هؤلاء المجانين على مصائر البشر.
لقد التبس الأمر على الولايات المتحدة بتفكك الاتحاد السوفيتي تسعينيات القرن الماضي، فقد ظنت خطأ أن ذلك التفكك يعني “انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفيتي”، وظنت خطأ أن ذلك يعني منحها الحق في التمدد شرقاً نحو الحدود الروسية، بصرف النظر عن كافة التحذيرات التي وجهها بهذا الصدد مسؤولون أمريكيون ومن جميع أنحاء العالم، وبرغم ما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007.
واصل الناتو تمدده شرقا، فوقعت أحداث جورجيا في 2008، ثم انقلاب أوكرانيا عام 2014، ثم هوس العقوبات الاقتصادية والحصار، ثم عمليتين عسكريتين ضد إقليم الدونباس، في محاولة لحل الأزمة الأوكرانية بالقوة العسكرية، ثم المماطلة والتسويف والدبلوماسية غير النزيهة من قبل ألمانيا وفرنسا والنظام الأوكراني في اتفاقيات مينسك، وصولا إلى اضطرار روسيا البدء بالعملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا دفاعا عن أمنها القومي، وعن سلامة وأمن مواطنيها الروس في تلك المناطق التي تقع في مرمى نيران النازيين الجدد والنظام العميل في كييف.
إن روسيا تبذل أقصى جهودها كطبيب معالج لتلك الحالات المرضية المتردية في الغرب، في محاولة لوقف تطورات المرض العضال الذي أصاب الولايات المتحدة والغرب، والذي لا يتوقف على أوروبا وربيبتها أوكرانيا، وإنما يمتد ليشمل مناطق أخرى من العالم، حيث ضم ترامب القدس الشرقية إلى إسرائيل واعترف بها “عاصمة لإسرائيل”، وهو ما أثار العالم الإسلامي والمسيحي بأجمعه وأصابه بالصدمة من كم التواطؤ والمعايير المزدوجة لدى “الديمقراطية” الغربية.
إن قضية القدس هي القضية الأكثر حساسية على مستوى العالم، لأنها لا تخص دولة بعينها، وإنما تخص مليارات من البشر حول العالم. وفي ضوء التطورات الأخيرة، وعلى وقع فشل كل جهود الأمم المتحدة لتفعيل اتفاقيات مينسك بين روسيا وأوكرانيا وألمانيا وفرنسا، ومحاولات مجلس الأمن الدولي للتوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، اضطرت روسيا إلى اتخاذ قرارها بالمضي قدما في عمليتها العسكرية الخاصة بأوكرانيا، والتي تهدف ليس فقط إلى تحرير مناطق الدونباس، ولا تقتصر على أوكرانيا، وإنما تمثل عملية جراحية دقيقة تخص بالدرجة الأولى الولايات المتحدة ودول الناتو التي وصلت الآن إلى غرفة العناية المركزة، بعد إجراء العملية، في محاولة للاستفاقة من آثار العملية.
لهذا، فليس على المريض حرج، لا سيما إذا كان مريضا لا زال يعاني من الجنون المزمن، ونوبات الهلاوس والهلع. وهذا ما يحدث اليوم مع القادة الأمريكيين والغربيين، والسبب فيما نلمسه في تصريحاتهم غير المتزنة، بينما يستيقظون رويدا رويدا من آثار التخدير، ويرون ما صنعته يداهم بدولة أوكرانيا التي خسرت مئات الآلاف من جنودها، ومئات الكيلومترات من أراضيها بسبب العناد والكبر والعمالة للغرب. لكن أوكرانيا لا تعني للغرب أي شيء على الإطلاق، والشعب الأوكراني في ذيل أولويات الغرب، ولا يعتبرونه سوى “علف للمدافع” لا أكثر.
الحقيقة الماثلة أمامنا اليوم هي فشل ما خطط له الغرب من هزيمة روسيا، واستحالة انتزاع حق العالم الإسلامي والمسيحي ومحبي السلام العادل في القدس عاصمة لفلسطين، والحقيقة التي يواجهها العالم اليوم هي ضرورة استعادة حقوق الشعب الفلسطيني كاملة، لا سيما حقه في التمتع بدولته الفلسطينية المستقلة. والحقيقة الأكثر وضوحا هي أن عالم هيمنة القطب الواحد قد انتهى بلا رجعة.
إن العالم الذي نعيشه في العقود الثلاثة الأخيرة يواجه تحديات خطيرة وقف وراءها شخصيات سياسية رعناء تسببت في مغامرات مميتة أسفرت عن مقتل ملايين البشر، وقد أسكر النصر المزعوم في الحرب الباردة الغرب، وظن أن العالم بأسره أصبح خاضعا لسيطرته بعد القرار الذي اتخذته موسكو حينها بتفكيك المنظومة الاشتراكية وحلف وارسو العسكري ثم الاتحاد السوفيتي لاحقا، وفقد القادة الغربيون صوابهم وتفكيرهم العلمي السليم والرصين، ويعرضون العالم الآن إلى مخاطر نشوب صدام نووي، فيما تسعى روسيا بكل الوسائل الممكنة إلى تفادي مخاطر هذا الجنون الغربي. ولن تسمح روسيا أبدا بحدوث حرب نووية، لا إقليميا ولا دوليا، بينما تقع مسؤولية تفادي هذا الخطر الآن على روسيا، وعلى روسيا فقط، فيما تتعامل مع كل الاستفزازات التي تصدر ضدها بردود فعل متزنة وعاقلة، وتتخذ كل ما يستلزم لحماية أمنها القومي الداخلي اقتصاديا وعسكريا لمواجهة التوسع الأحمق للناتو شرقا (والذي زاد عدد الدول المنتمية إليه إلى الضعف بانضمام السويد، من 16 إلى 32 دولة).
أظن أن العالم قد بدأ في استيعاب الحاجة الماسة لتراجع هذا التحالف الغربي عن أوهام هزيمة روسيا وأهمية السياسة التي تنتهجها موسكو منذ بداية التسعينيات حتى الآن لإنهاء الصراعات الأيديولوجية وسباق التسلح النووي، والتي اعتبرتها الولايات المتحدة والغرب سياسة ضعف لا حكمة.