د. عمر حمود
– مع بداية عام 2023، بدأت موجة جديدة من الخلافات الإعلامية بين مصر والسعودية. وقيّم الخبراء هذه المواجهة بين المثقفين المصريين والسعوديين المقربين من سلطتي كلا البلدين بأنها نوع من اختبار الذوق لتحديد سياسات جديدة في مجال العلاقات الخارجية ومنذ ذلك الوقت وعدوا بالتنويع في مجال العلاقات الخارجية للبلدين. إن تحرك السعودية لإعادة علاقاتها مع إيران وسوريا والجزائر، وسعي مصر لإعادة علاقاتها مع تركيا وإيران، فضلاً عن تعزيز العلاقات مع روسيا والصين والإمارات، كان نتيجة لنفس التجربة في وسائل الإعلام المصرية والسعودية. ومن بينهم، كتب عبد الرزاق توفيق، رئيس تحرير جريدة جمهورية مصر الحكومية، مقالاً بعنوان “من يعوض الفاتورة المؤلمة للحرب الروسية الأوكرانية؟”. وفي هذا المقال في معرض إشارته إلى الحرب بين روسيا وأوكرانيا، انتقد مدى الآثار السلبية لهذه الحرب على الاقتصاد المصري، وهاجم دول الخليج لتركها مصر وحيدة في هذه الأزمة الاقتصادية.
كما أعاد “القاهرة 24″، وهو موقع إخباري متعلق بجهاز الأمن المصري، نشر هذا المقال وأعلن بطريقة أو بأخرى أن الغرض من المقال هو إرسال رسالة مباشرة إلى المملكة العربية السعودية.
الى ذلك هاجم تركي الحمد، وهو كاتب وأستاذ بجامعة سعودية مقرب من دوائر صنع القرار في السعودية، الرئيس المصري عبر حسابه على تويتر وعزا الأزمة الاقتصادية إلى تصرفات الجيش المصري و السياسات الاقتصادية الخاطئة والقديمة للبلد.
وعلق عبد الله الفوزان، الأمين العام لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، بشدة على هذه التصريحات. وقام عبد الرزاق توفيق مرة أخرى بحذف المقال الأول من موقع الجمهورية، وبعد أيام قليلة كتب مقالاً آخر بعنوان “القاهرة والرياض.. القلب النابض للوطن العربي”، والذي كان بحسب الخبراء نوعاً من اعتذار عن المقال الأول. کما تم حذف تغريدات ومحتويات أخرى من أشخاص آخرين رداً على بعضهم البعض، وتمت تهدئة هذه الحرب الإعلامية بين الطرفين.
وكانت العلاقات بين مصر والسعودية تشهد اتجاهاً مستقراً قبل الثورات الشعبية في شمال أفريقيا، لكن مع صعود جماعة الإخوان المسلمين دخلت مرحلة من عدم الثقة. كانت السعودية تشعر بالقلق من استمرار الصحوة الإسلامية وتورط دول شرق الأوسط في هذه الثورات، ولهذا السبب، وعلى الرغم من جهود حكومة محمد مرسي الإخوانية لتعزيز العلاقات مع السعودية، إلا أن هذه الدولة تجنبت تقوية الإخوان في مصر. ومن الممكن أن يكون سقوط مرسي وإزاحة حركة الإخوان المسلمين الخطيرة، بداية لتعزيز العلاقات بين مصر والسعودية، وتوفير شروط تلقي المساعدات المالية من السعودية والإمارات.
لكن في هذا الوضع نشرت السعودية خبر استحواذها على جزيرتي تيران وصنافير المهمتين الواقعتين شمال البحر الأحمر. صدم هذا الخبر الشعب المصري وأثار احتجاجات كثيرة. ولوحظت ردود فعل متباينة من الحكومة المصرية في هذا الصدد. وحاول البعض الحديث عن عدم حسم هذه القضية، بينما أدلى آخرون بتصريحات حول طبيعتها المؤقتة واستمرار تواجد الجيش المصري في هذه الجزر لضمان الأمن. حتى أن بعض المسؤولين في حكومة السيسي حاولوا نسب ملكية هذه الجزر إلى السعودية بشكل عام، وذكروا أن الوقت قد حان لإعادتها إلى السعودية. ومع تزايد الاحتجاجات في مصر، تدخل النظام القضائي وطالب بمزيد من التحقيق في المستندات في هذا الشأن. وأخيرا، تم رفض هذا القرار من الحكومة المصرية في المحكمة العليا المصرية، وبناء على أمر السلطة القضائية المصرية، تم إيقاف تنفيذ اتفاق تسليم جزيرتي تيران وصنافير إلى المملكة العربية السعودية بشكل كامل. وتسببت هذه القضية في عودة الخلافات بين البلدين، كما أعلنت السعودية أن إرسال المساعدات المالية من هذه الدولة له شروط يجب توافرها.
ورغم تقارب البلدين في بعض القضايا مثل العلاقات مع إسرائيل والعداء مع جماعة الإخوان المسلمين؛ الا ان ذلك لم يمنعهما من الرغبة في اتخاذ موقف مستقل أمام بعض الأحداث العالمية والعربية المهمة. بشكل عام، لدى العسكريين المصريين نزعات قومية قوية ويعتقدون أنهم متفوقون على السعودية تاريخياً وثقافياً وحضارياً، لذلك لا يقبلون أن يكونوا تحت هيمنة دولة أخرى.
ونظراً لمصالحهما الوطنية، فإن الحكومة والجيش المصريين لم يرغبا في سقوط الحكومة السورية وما يترتب على ذلك من عواقب، بما في ذلك تفكك هذا البلد أو قيام حكومات متطرفة وإخوانية في سوريا. لكن المملكة العربية السعودية، في حين تدعم المعارضة السورية، كانت تعمل على تعزيز جماعة الإخوان المسلمين في ذلك البلد. وبالنظر إلى تعدد الاتجاهات المتطرفة المختلفة بين معارضي الحكومة السورية، فإن إسقاط نظام الأسد وغياب قوة غالبة من هذه الجماعات سيؤدي إلى تقسيم سوريا، ومن المؤكد أن هذه القضية سيكون لها تأثير سلبي على مصر أمنياً ولن يكون مقبولاً لدى السلطات الأمنية والعسكرية المصرية.
وأدى إحجام القاهرة عن المشاركة في الحرب ضد اليمن إلى استياء السعودية والإمارات. فاليمن هو العمق الاستراتيجي للسعودية، وهذا البلد لا يتحمل فقدان السيطرة عليه. ولذلك فإن المواجهة المباشرة للحوثيين المدعومين من إيران وتشكيل تحالف للحرب كان أمراً مهماً جداً بالنسبة للسعودية. لكن مصر التي تعتبر التدخل في اليمن أحد أخطاء جمال عبد الناصر التاريخية، رفضت هذه المرة الدخول في الحرب في اليمن أو إرسال قوات عسكرية إلى هذا البلد وفضلت عدم اتخاذ موقف عدائي تجاه اليمن والتضحية بالأرواح بلا جدوى في قضية لا علاقة لها بها. وفي الوقت نفسه، كانت مصر قلقة من ردود فعل الحوثيين بشأن مشاركة هذه الدولة في التحالف وخلق حالة من الانفلات الأمني في البحر الأحمر وتعريض دخل مصر من الشحن الدولي للخطر.
وفي يونيو/حزيران 2017، وفي أعقاب سياسات المملكة العربية السعودية، انضمت مصر إلى تحالف البلاد مع الإمارات والبحرين وقطعت علاقاتها مع قطر. وبعد انتهاء الحصار، استأنف السعوديون علاقاتهم مع قطر. وقد تم ذلك دون التنسيق مع الدول الأخرى في التحالف، بما في ذلك مصر، مما أثار غضب السلطات المصرية. ويعتقد المصريون أن السعودية تجاهلت مصر في العملية السياسية بالمنطقة.
وكان أحد ردود فعل الرياض على المواقف المستقلة للمصريين هو زيادة تكلفة تأشيرات الحج والعمرة للحجاج المصريين لمنعهم من السفر بأسعار زهيدة إلى السعودية. وبالطبع رحبت مصر بهذا القرار واعتبرت حداً سنوياً في برامجها للعمرة، وبذلك تتمكن من إدارة تعاملات المصريين داخل البلاد مع المهاجرين الذين تعرضوا للأفكار الوهابية لسنوات.
وكان قطع مساعدات أرامكو النفطية لمصر ثمناً آخر دفعته مصر مقابل انتهاج سياسة مستقلة وأجبرت هذه الدولة على تنويع علاقاتها في مجال الطاقة وحتى التفكير في إحياء العلاقات مع تركيا.
وتحاول مصر دائمًا الحفاظ على علاقاتها مع دول الشرق وتنويع علاقاتها الخارجية. لذلك، وفي إطار مصالحه الوطنية، يريد الحفاظ على العلاقات مع روسيا والصين وتحسينها. وهي بذلك تظهر مظهرها المختلف عن الدول العربية في المنطقة، التي تنحاز عموماً إلى الغرب وأميركا في سياستها الخارجية. وبهذا تعتبر مصر من الدول التقدمية بين دول الجامعة العربية، والتي لديها خلافات كثيرة مع الديكتاتوريين العرب في المنطقة. كما وافقت مصر، انطلاقاً من مواقفها المستقلة، على القرارات الروسية في مجلس الأمن، وصوتت عدة مرات لصالح هذه القرارات.
وقد تحدث الرئيس عبد الفتاح السيسي مراراً وتكراراً عن العلاقات الودية التي تربط هذا البلد مع المملكة العربية السعودية وأكد أنه لا توجد مشاكل خطيرة في هذه العلاقات ويمكن التحقيق في الخلافات البسيطة في الرأي وحلها في بيئة ودية. لكن الحقيقة هي أن البلدين متنافسان منذ زمن طويل. وبطبيعة الحال، فإن رغبة مصر في تشكيل حكومة ديمقراطية وإجراء انتخابات تشكل مصدر قلق للسلطات السعودية. كما أن نشاط الجماعات الداعمة للوهابية في مصر يشكل أيضاً مصدر قلق للقاهرة. بل إن مصر تشعر بالقلق من أنشطة الجماعات السلفية، مثل أعضاء حزب النور المنحل، الذي فاز بالعديد من المقاعد في أول انتخابات برلمانية بعد عام 2011، وتعتبرها تتعارض مع مصالحها الوطنية وأمنها. في حين أن هؤلاء الأشخاص مدعومون بشكل عام من قبل الرياض. كما تشعر مصر بالقلق من قيام الرياض بتجهيز وتسليح الجماعات الإرهابية في صحراء سيناء.
وهذان المنافسان يبحثان دائمًا عن التفوق في الجامعة العربية. وانطلاقاً من مكانتها الديمقراطية ومكانتها الخاصة، تريد مصر أن يكون لها توجه سليم تجاه قرارات الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد، وأن تجعل قرارات هذا الاتحاد في نهاية المطاف متوافقة مع مصالح الحكومات والأمم العربية. السعودية تسعى فقط للتواصل مع الغرب وتأمين مصالح الولايات المتحدة باعتبارها الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في المنطقة، ولهذا السبب عارضت مصر نقل أمانة الجامعة العربية إلى الرياض.
نقطة أخرى مهمة في هذا الصدد هي تنافس السعودية والإمارات مع بعضهما البعض فيما يتعلق بالاستثمار أو التواصل الفعال بشكل متزايد مع مصر. والحقيقة أن الحكومة المصرية لديها تقارب أكبر مع الإمارات، بل إنها مهتمة بالارتباط والاستثمار المباشر لرجال الأعمال الإماراتيين في مصر. وكلما حدث توتر في العلاقات بين السعودية ومصر لبعض الأسباب، ظهرت أيضاً أرضية القرب الإماراتي من مصر والمنافسة الإقليمية الجديدة بين السعودية والإمارات. ووقعت الإمارات مؤخرا أكبر عقد استثمار مباشر لها في مصر بقيمة 35 مليار دولار لتطوير ميناء رأس الحكمة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وقال رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، إن هذا العقد يشمل إنشاء فندق ومرافق ترفيهية ومنطقة تجارية ومطار دولي جنوب مدينة مطروح. وستنفق دولة الإمارات ما لا يقل عن 150 مليار دولار أخرى خلال تنفيذ هذا المشروع. ولطالما أكد عبد الخالق عبد الله، أحد الشخصيات الأكاديمية الإماراتية المقربة من حكام هذا البلد، على العلاقات الاستراتيجية لدولة الإمارات مع مصر، ويصف اتحاد أو تقارب الرياض والقاهرة بأنه شيء من الماضي. ويعتقد أن أحد عوامل صعود السيسي إلى السلطة في مصر منذ عام 2013 كانت الإمارات، وهذا النهج مستمر.
كما بدأت مرحلة جديدة في العلاقات المصرية التركية بزيارة الرئيس التركي أردوغان لمصر في 14 فبراير وتهدئة التوترات بين البلدين. وبينما أبدى أردوغان ارتياحه لعودته إلى القاهرة بعد 12 عاماً، دعا أردوغان السيسي للسفر إلى أنقرة في أول فرصة لعقد اجتماع رفيع المستوى لمجلس التعاون الاستراتيجي التركي المصري. ووعد بزيادة التجارة مع القاهرة إلى 15 مليار دولار على المدى القصير وتعزيز التعاون في مجالات الطاقة والدفاع والسياحة والتعليم والثقافة. وربما تشجع الإشارات المرسلة إلى السعودية بعد هذه الرحلة مسؤولي الرياض على التواصل بشكل أكبر مع مصر، لكن لهذا التواصل الفعال کان معالجة مخاوف مصر ضرورياً.