عندما نلقي نظرة فاحصة على مفردات و افعال الآيات القرآنية من الناحية الصرفية[وعلم الصرف يدرس أبنية الكلمة العربية وأحوالها و أحكامها غير الإعرابية و يبحث في صيغ الكلمات و أوزانها وما يطرأ عليها من تغيير كالإعلال والإدغام والإبدال،وصيغ الفعل الثلاث وانماطه “الماضي، و المضارع، والامر”]و حينما نتأمل في سوره نجد تناسقاً في عناصر السياق،وتناغماً بين أفعال السورة وصيغِهِ [الماضي، والمضارع،والأمر) تتجلى لنا خصوصية المفردة القرآنيةوجماليتها.
على سبيل المثال:
*{وَٱللهُ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ ٱلرِّيَٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابٗا فَسُقۡنَٰهُ إِلَىٰ بَلَدٖ مَّيِّتٖ فَأَحۡيَيۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ كَذَٰلِكَ ٱلنُّشُورُ}* (فاطر/9)
فثمة انتقال في الآية من الغَيبة إلى التكلّم ،إذ الكلامُ في صَدْرِ الآيةِ جَارٍ وفْقَ أُسْلُوبِ الْحدِيثِ عن الْغَائب:{ أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً} .
وبَعْدَ ذلِكَ انْتَقَل إلى أُسْلُوبِ التكَلُّمِ فقال تَعَالى:
{فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} .
وفائِدة هذا الالتفاتِ إيقاظُ الأذْهانِ للتفكُّر في مِنَّةِ اللهِ على عبادِه الذي يُقَدِّر أسْباب رِزْقِهِم و يَسُوقُها لهم، وللتفكُّرِ في مظهر من مظاهر قدرته الَّتِي يُحْيِي بها الأرْضَ الميتة، الذي يُشْبِهُهُ إحياءُ الموتَى يومَ القيامة، إذ جاء فيه تحدُّثُ الرَّبّ الجليل عن نفسه بضمير المتكلِّم العظيم: {فَسُقْنَاهُ – فَأَحْيَيْنَا بِهِ} (كما ذكر کتاب: البلاغة العربية
للميداني،ج 1 ص 490).
بينما قال الزمخشري في تفسيره:
فإن قلت: لِمَ جاء “فتثير” على المضارعة دون ما قبله وما بعده ؟
قلت: لتحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، وتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية ، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب، أو تهم المخاطب أو غير ذلك .
فيما قال البيضاوي في تفسيره:
“فتثير سحاباً ” على حكاية الحال الماضية استحضاراً لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة ، ولأن المراد بيان أحداثها بهذه الخاصية و لذلك أسنده إليها ، ويجوز أن يكون اختلاف الأفعال للدلالة على استمرار الأمر.
وعند مراجعتنا ل[الميزان في تفسير القرآن/للعلامة الطباطبائي/ج١٧/ص ٢١-٢٢] وجدناه يقول:
العناية في المقام بتحقق وقوع الأمطار وإنبات النبات بها، ولذلك قال: “الله الذي أرسل الرياح ” وهذا بخلاف ما في سورة الروم/الآية 48من قوله: ” الله الذي [يرسل الرياح] فتثير سحابا ” .
ونلحظ قوله: ” فتثير سحابا ” عطف على ” أرسل ” والضمير للرياح
،والإتيان بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية.
ثم قال:
وفي قوله: ” فسقناه إلى بلد ميت ” ..الخ. التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير فهو تعالى في قوله: ” والله أرسل ” بنعت الغيبة وفي قوله: ” فسقناه ” الخ، بنعت التكلم مع الغير ولعل النكتة في ذلك هي أنه لما قال: ” والله أرسل الرياح ” أخذ لنفسه نعت الغيبة ويتبعه فيه الارسال فإن فعل الغائب غائب، ثم لما قال: ” فتثير سحابا ” على نحو حكاية الحال الماضية صار المخاطب كأنه يرى الفعل و يشاهد الرياح وهي تثير السحاب و تنشره في الجو فصار كأنه يرى من يرسل الرياح لأن مشاهدة الفعل كادت أن لا تنفك عن مشاهدة الفاعل فلما ظهر تعالى بنعت الحضور غيّر سياق كلامه من الغيبة إلى التكلم واختار لفظ التكلم مع الغير للدلالة على العظمة/انتهى.
بيد أننا نجد تناغم الأفعال في سورة الأعلى على سياق واحد:
[سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى (1) ٱلَّذِي #خَلَقَ(ماضٍ) #فَسَوَّىٰ(ماضٍ) (2) وَٱلَّذِي #قَدَّرَ (ماضٍ) #فَهَدَىٰ (ماضٍ) (3) وَٱلَّذِيٓ #أَخۡرَجَ (ماضٍ) ٱلۡمَرۡعَىٰ (4) #فَجَعَلَهُۥ(ماضٍ) غُثَآءً أَحۡوَىٰ (5)].
ثم ينتقل السياق إلى أفعال المضارع المقترن أحياناً بحرف السين للمستقبل:
[#سَنُقۡرِئُكَ(مضارع) فَلَا #تَنسَىٰٓ(مضارع) (6) إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ إِنَّهُۥ #يَعۡلَمُ (مضارع) ٱلۡجَهۡرَ وَمَا #يَخۡفَىٰ (مضارع) (7) #وَنُيَسِّرُكَ (مضارع) لِلۡيُسۡرَىٰ (8) فَذَكِّرۡ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكۡرَىٰ (9) #سَيَذَّكَّرُ (مضارع)مَن #يَخۡشَىٰ (مضارع) (10) #وَيَتَجَنَّبُهَا (مضارع) ٱلۡأَشۡقَى (11) ٱلَّذِي #يَصۡلَى(مضارع) ٱلنَّارَ ٱلۡكُبۡرَىٰ (12) ثُمَّ لَا #يَمُوتُ (مضارع) فِيهَا وَلَا #يَحۡيَىٰ (مضارع) (13)].
ولنذكر مثالا آخر في {النازعات}:
[ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ #بَنَاهَا(ماضٍ) (27) #رَفَعَ(ماضٍ) سَمْكَهَا #فَسَوَّاهَا(ماضٍ) (28) #وَأَغْطَشَ(ماضٍ) لَيْلَهَا #وَأَخْرَجَ(ماضٍ) ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ #دَحَاهَا(ماضٍ) (30) #أَخْرَجَ(ماضٍ) مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ #أَرْسَاهَا(ماضٍ) (32) مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) ]
وهكذا في {الرحمن}:
[ٱلرَّحۡمَٰنُ (1) #عَلَّمَ (ماضٍ) ٱلۡقُرۡءَانَ (2) #خَلَقَ(ماضٍ) ٱلۡإِنسَٰنَ (3) #عَلَّمَهُ(ماضٍ) ٱلۡبَيَانَ (4)]
إذن؛حَرِيٌّ بنا معرفة خصوصية المفردة القرآنية وتسليط الضوء على السياق العام لكي تتبلور معاني النص القرآني المقدس ،و يتسنى فهمه، وتفسيره ،و التدبر فيه،كمقدمة للعمل بأحكامه ،والالتزام بأوامره، واجتناب نواهيه.
#يتبع#