بقلم د. علي عزيز أمين
• وحتى القاعدتان البريطانيتان في قبرص ستكونان هدفا لصواريخ حزب الله في حال تحركت طائراتها لقصف جنوب لبنان
إيضاح تاريخي
قبل أن نلج في أجواء التحذير وأبعاده لا بد لنا من تدقيق أمرين الأول هو لمن يوجه تحذير حزب الله، لقبرص الشمال أم قبرص الجنوب، والثاني هو تناول تاريخ ومسار العلاقة مع قبص وتغير المواقف نتيجة التأثيرات الخارجية.
لننطلق أولا من أن قبرص هي واقعيا قسمان: قبرص التركية، وقبرص اليونانية، والقسم اليوناني يشغل 59% من أراضي الجزيرة أي 5896 كم مربع والقسم الشمالي التركي وتبلغ مساحته 3355 كم مربع، وفي قبرص قاعدتان بريطانيتان تشغلان 256 كم مربع لهما كامل السيادة على هذه الأراضي، وهناك شريط فاصل بين الجمهوريتين مساحته 244 كم مربع يعتبر منطقة عازلة ويتبع للأمم المتحدة وفيه تنتشر قوات حفظ السلام.
لا بد من الإشارة إلى أن العرب المسلمين فتحوا الجزيرة في عهد معاوية بن أبي سفيان، وعاش سكانها الأتراك واليونانيون في وئام وحسن جوار إلى أن أجَّرت الدولة العثمانية الجزيرة لإنجلترا لقاء مناصرة إنجلترا لتركيا في حال تعرضت لغزو من روسيا، ثم ضمتها إنجلترا تعسفيا حين تحالفت تركيا مع ألمانيا الهتلرية.
مراحل وتحولات
وعلى الرغم من تحسن العلاقة بين الدول العربية وقبرص اليونانية أيام الاسقف ماكاريوس الثالث حيث أجرى استفتاء يقضي بانضمام الجزيرة إلى اليونان وحصل على 96% فنفاه البريطانيون عام 1956، ثم رضخت بريطانيا لتعاظم الحراك الجماهيري المطالب بالاستقلال، وأسفرت العلاقة الجيدة لمكاريوس بالرئيس جمال عبد الناصر وتيتو وجواهر لان نهرو عن تشكيل مجموعة عدم الانحياز.
ساند عبد الناصر انتفاضات الشعب في قبرص ضد الاحتلال البريطاني، وكانت علاقة ماكاريوس جيدة جدا مع سوريا أيضا، إلا أن تحولات جدية قد طرأت على مواقف قبرص التي عمقت من علاقاتها مع إسرائيل، بعد أن كانت أقرب إلى العرب والقضية الفلسطينية، خاصة أن مصالح مادية كبيرة دخلت على الخط حين وقعت إسرائيل اتفاقا مع قبرص للتعاون في مجال التنقيب عن النفط والغاز في المتوسط ما يجعلهما شريكين في المشاريع المستقبلية التي تدر أموالا طائلة، بعد ذاك ازداد التقارب مع إسرائيل وتراجع مع الدول العربية.
تحذير واضح لا لبس فيه
التحذير الذي وجهه حزب الله واضح بل ساطع، وليس فيه أي تجنٍّ على أحد، جاء هذا التحذير بعد حصول الحزب على معلومات دقيقة بأن قبرص تستعد لفتح مرافقها لإسرائيل لاستخدامها في شن غارات على مواقع حزب الله، والمقصود مطارات قبرص والقاعدتين البريطانيتين فيها، واللتين ستصبحان هدفا مشروعا لصواريخ حزب الله إن انطلقت الطائرات منها لقصف جنوب لبنان، والأمر ليس عبثيا على الإطلاق، فحين تقدم أية دولة أراضيها إلى جيش دولة أجنبية للانطلاق لقصف دولة أخرى تصبح شريكة مباشرة في الحرب، وبالتالي يغدو تحذير حزب الله أكثر من موضوعي، واعتباره قبرص شريكةً في الحرب إن هي فتحت أراضيها للقوات الإسرائيلية أمر بديهي تماما، وعبارة إذا فرضت الحرب فالمقاومة ستقاتل بلا ضوابط وقواعد أمر طبيعي جدا أيضا لأن المعركة إذ ذاك ستكون معركة وجودية، معركة مصير، ولكن سرعان ما عبرت الأصوات النشاز عن نفسها وكأنما الخطر يأتي من حزب الله وليس من استخدام إسرائيل لأراضي قبرص.
الاستنفار
تلاحقت على الفور التصريحات الحادة من الجهات والأفراد الذين هم في الواقع الأقرب إلى إسرائيل والملفت للنظر أن أهدأها تصريحات الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليس الذي حاول تهدئة الخواطر مركزا على أن قبرص جزء من الحل وليست جزءا من المشكلة، وأنها لن تسمح لأية دولة باستخدام أراضيها في عمليات عسكرية ومع ذلك اعترف بأن للقواعد البريطانية في قبرص خصوصية واستقلالية كاملة! وبدت بعض التصريحات وكأنها تصب الزيت على النار حيث أعلن المتحدث باسم المفوضية الأوربية للشؤون الخارجية والأمنية بيتر ستانو عن وقوف الاتحاد الأوربي إلى جانب قبرص انطلاقا من أن قبرص عضو في الاتحاد وبالتالي أي تهديد يوجه ضدها يعتبر موجها ضد الاتحاد، طبعا ليس في ميثاق الاتحاد الأوربي مثل هذا المفهوم حول الدفاع المشترك كالمادة الخامسة في ميثاق حلف شمال الأطلسي، ويرى الخبراء العسكريون القبرصيون أن على قبرص أن تخشى حزب الله الذي يستطيع ضرب قبرص واقعيا حسب الجنرال القبرصي المتقاعد يوانيس بالتزوتيس الذي نوه في غضون ذلك بأن زعيم الحزب السيد حسن نصر الله إنسان عقلاني ويدرك أن الهجوم على قبرص هو بمثابة الهجوم على الغرب، أي أنه يوجه تحذيرا مبطنا لحزب الله الذي يعرف الجميع أنه لا يخاف من هم أكبر من قبرص، بل إن تحذيره موجه لهم بالدرجة الأولى، وهو يدرك تماما الدور الذي تقوم به القاعدتان البريطانيتان في قبرص وخاصة قاعدة أكروتيري والتي سبق أن استخدمت لقصف ليبيا وسوريا وتستخدم حاليا لقصف الحوثيين الذين يقومون بعمليات تهدف إلى مساعدة الفلسطينيين، لذا الصورة واضحة بالنسبة لحزب الله وهو يعرف م تماما خلفيات تحذيراته على مبدأ المتنبي:
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ فمن العجز أن تموت جبانا
وحزب الله يعرف أيضا أن من يستند إلى الشعب لا يمكن أن يموت
الطابور الخامس يتحرك
يمكن بالطبع تفهم القلق اللبناني الرسمي حيث سارعت وزارة الخارجية والمغتربين اللبنانية للتأكيد على حسن العلاقات الدبلوماسية بين لبنان وقبرص وأن الصلات مستمرة للحفاظ على المصالح المشتركة واتصال وزير الخارجية اللبناني عبد الله بو حبيب بنظيره القبرصي كونستانتينوس كومبوس الذي أكد أن بلاده لن تتورط في الحرب الدائرة في المنطقة.
لكن المثير للدهشة والاشمئزاز هو مواقف الذين تبرعوا عمليا للدفاع عن إسرائيل باستغلال تحذيرات حزب الله وتصويرها ليست ردة فعل على التهديدات الإسرائيلية، بل توتيرا للعلاقات مع قبرص كتصريحات مدير معهد الشرق الأوسط للشؤون الاستراتيجية الدكتور سامي نادر الذي اعتبر تحذير حزب الله استعداء للاتحاد الأوربي وتوريطا للبنان، وكالعادة تجانست مواقف الحزب التقدمي الاشتراكي وحزب الكتائب وحزب القوات اللبنانية لشجب تحذير حزب الله وتصويره على أنه سعي للعزلة وخسارة الأصدقاء، والحقيقة أن موقف هذه الأحزاب الثلاثة كان يمكن أن يكون مفاجئا ومدهشا إن لم يكن ضد حزب الله ولصالح إسرائيل .