مشرق عباس
من المفارقات العراقية، أن يتوصل الجميع إلى قناعة مفادها أن قانون الانتخابات العراقي الذي يعتمد التمثيل النسبي (كل محافظة دائرة انتخابية، والقوائم شبه مغلقة، والأصوات حسب معادلة سانت ليغو)، لا يوفر الحد الأدنى من شروط العدالة والتمثيل الحقيقيين، وأن آليات اختيار مفوضية الانتخابات التي تتقاسم الأحزاب مقاعدها، تضفي المزيد من التعقيد والطعن والشكوك بالعملية الانتخابية العراقية إلى درجة وصول نسب المقاطعة في بعض المدن في نسخة 2018 إلى 80 في المئة، وهي نسبة مؤهلة للارتفاع مع إعلان البرلمان تمسكه بصيغة الانتخابات المطعون بها، وإجبار العراقيين على قبولها رغما عنهم في انتخابات مجالس المحافظات المتوقع إجراؤها في أبريل 2020، وبالضرورة في الانتخابات البرلمانية 2022.
ومن البديهي في بيئة سياسية يقودها مخلصون لأوطانهم أن يعيد أصحاب القرار حساباتهم عندما تؤكد الوقائع والاستطلاعات والتوقعات نسبا مرعبة للمقاطعة الشعبية، فلا قانون الانتخابات أهم من البلد، ولا مفوضية الانتخابات أغلى من الشعب. ولولا أن المعادلات في العراق مختلفة تماما حيث توفر المقاطعة الواسعة متنفسا وحيدا للأحزاب الميتة سريريا والفاقدة لتأييد الجمهور، فتضمن مشاركة مقتصرة على جمهور حزبي محدود في الغالب، وفرصا مفتوحة للتزوير.
إن استثمار الأحزاب العراقية في “توسيع المقاطعة الشعبية للانتخابات” من خلال الإصرار على الآليات المشجعة على المقاطعة، هو سلوك خطير، يدفع المزيد من العراقيين إلى التشكيك بجدوى “الديمقراطية” ويفتح الباب لتفاقم الإحباط الشعبي الذي ينبئ بالعنف والتطرف.
عبر العالم هناك العشرات من طرق الانتخابات، وهناك تطوير مستمر للآليات والمراجعات من مهام السلطات التشريعية لضمان النزاهة والعدالة في التمثيل، وقد طرحت أمام الوسط السياسي العراقي أنظمة مختلفة رفضت لأسباب غير مقنعة، منها:
ـ توزيع الدوائر الانتخابية حسب مقاعد مجلس المحافظة أو البرلمان (مقعد لكل دائرة).
ـ توزيع الدوائر الانتخابية على نصف مقاعد مجلس المحافظة أو البرلمان على أن يكون النصف الآخر للقوائم الحزبية المغلقة (تمثيل متعدد).
ـ تحويل الأقضية
في العراق (نحو 135 قضاء إداريا) إلى دوائر انتخابية (لكل دائرة أكثر من مقعد حسب التوزيع السكاني).
ـ دائرة لكل محافظة، والقائمة شبه مغلقة، مع منح نصف المقاعد للمرشحين الأعلى أصواتا والنصف الآخر يوزع بطريقة “سانت ليغو”.
وكان رفض هذه المقترحات وغيرها في الغالب سياسيا، فالطريقة المستخدمة حاليا (سانت ليغو) تحقق ما يمكن أن يطلق عليه (انتخابات زعماء) فهي تسمح بتكدس الأصوات لدى مرشح ما ليتحول ذلك المرشح إلى مانح للأصوات، فتدور حوله الانتخابات، ويقترن باسمه مفهوم التمثيل، وأيضا لأن هذه الطريقة تضمن نجاح القوائم الكبيرة على حساب الصغيرة، وتتيح تحويل المرشحين الخاسرين إلى فائزين اعتمادا على أصوات غيرهم.
لكن الغطاء الدائم لمنع تطوير آليات الانتخاب في العراق، كان “مفوضية الانتخابات” التي تدعي عدم قدرتها توسيع نطاق الدوائر الحالية، وتؤكد أن ذلك مقترن بإجراء التعداد السكاني، وواقع الحال أن قواعد البيانات الحالية لدى المفوضية المعتمدة على توزيع كل مجموعة سكانية على مركز انتخابي حصري خاص بها، توفر أرضية رصينة لتوسيع الدوائر الانتخابية، وأن الرفض يعكس تخادما مفهوما بين ذرائع المفوضية ورغبات الأحزاب.
وتاليا، فإن الشكوك العراقية والدولية المتزايدة بنزاهة الانتخابات العراقية، كان من المفترض أن تدفع القوى العراقية إلى تبرئة نفسها من تهم التزوير، ودرء الفتن، وتشجيع السكان على الانتخابات، عبر إحالة ملف تشكيل مفوضية الانتخابات والإشراف عليها إلى بعثة الأمم المتحدة في العراق، لمدة دورتين انتخابيتين على الأقل، لضمان تدعيم بنى الديمقراطية الهشة، ومنع المزيد من التفكك فيها.
ولا يتعلق الأمر بالكبرياء الوطنية، بل بمصالح الأحزاب والقيادات السياسية، التي تخشى في ظل قواعد انتخابية أكثر عدالة في التمثيل، ومفوضية انتخابات أكثر نزاهة، انكشاف حقيقة شعبيتها المحدودة، سواء أتعلق الأمر بانتخابات البرلمان، أم بمجالس المحافظات، مثلما تخشى أن يكون تشجيع الكتلة المقاطعة الهائلة على المشاركة بابا لتقليص حضورها في البرلمان والمجالس المحلية لصالح تيارات جديدة.
لن يصل العراق إلى الاستقرار السياسي، إلا بتطهير نظامه الانتخابي الحالي أولا من أمراضه الكبيرة، والتحرك لإقناع العراقيين بأن بإمكان أصواتهم الحرة تحقيق مستقبل أفضل لهم ولعائلاتهم، وهذه مهمة وطنية كبرى، لكنها للأسف، ليست من ضمن أولويات الوسط السياسي العراقي الغارق بحسابات شراء الأصوات والذمم، وتزوير إرادة الجمهور، ودفع المزيد من العراقيين إلى اليأس.