وقد أعذر من أنذر”    الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر  

     

    اتهم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الغرب بالكذب في قوله إنه “لا يشجع ضربات القوات المسلحة الأوكرانية داخل روسيا”.

    جاء ذلك خلال مؤتمر صحفي للوزير خلال جولته الإفريقية الحالية، متجها إلى جنوب إفريقيا حيث يجتمع في إطار الاجتماع الوزاري لمنظمة “بريكس”، وتابع الوزير: “يمد الغرب كييف بالمزيد والمزيد من الأسلحة بعيدة المدى، في الوقت الذي يزعم فيه، كما لو كان يبرر لنفسه، أنه لا يشجع الضربات على الأراضي الروسية. وهذا كذب”.

    يأتي ذلك على خلفية هجوم إرهابي على مدينة موسكو وضواحيها بالطائرات المسيرة التي استهدفت منشآت سكنية لا علاقة لها بالمنشآت العسكرية من قريب أو من بعيد. هجوم، تنصل منه النظام في كييف كالعادة، إلا أنه يأتي عقب تدمير القوات المسلحة الروسية لمركز من مراكز القرار في أوكرانيا.

    وكنا نعتقد أن “العالم الحر” و”الديمقراطي” سيشجب ذلك الهجوم بأي تصريحات إدانة للعمل الإرهابي، إلا أن “السكوت علامة الرضا” فيما يبدو، وهو أمر طبيعي. ومن عجائب الصدف أيضاً، ان تسقط القوات المسلحة الروسية أول طائرة بريطانية مسيرة من طراز Malloy Aeronautics T150، حاولت اختراق المنطقة الحدودية لروسيا، وهي طائرة يعود تاريخ الحصول عليها إلى حزمة المساعدات البريطانية في مايو من العام الماضي بقيمة 374 مليون دولار أمريكي، أعلن عنها في وقتها رئيس الوزراء آنذاك بوريس جونسون.

    هي طائرات غير مخصصة للهجوم بالفعل، وتستخدم لتزويد القوات بالطعام والماء وقطع الغيار والمعدات والوقود والذخيرة على خط المواجهة، تحمل حتى 68 كيلوغراماً، وتستطيع الطيران حتى 70 كيلومتراً.

    لكن القوات المسلحة الأوكرانية استخدمت وتستخدم هذه الطائرات المسيرة في الهجوم، حيث تم تعليق لغم في هيكل الطيارة المسيرة التي أسقطتها القوات الروسية مؤخراً، وهذا ما يحدث دائماً.

    منذ أشهر، صرحت وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند بأن المنشآت العسكرية في شبه جزيرة القرم الروسية هي “أهداف مشروعة، وأوكرانيا تهاجمها ونحن ندعمها”. تلك أيضاً أراضٍ روسية، والهجوم عليها يمكن أن يؤدي إلى صدام عسكري مباشر مع موسكو، فذلك في عرف القوانين الدولية هو هجوم حربي ضد روسيا، يستوجب إعلان الحرب ضد من يدعم ويساعد ويمول ويقوم بهذا الهجوم. أليس ذلك منطقياً؟

    منذ أشهر أيضاً، وبينما كانت الولايات المتحدة الأمريكية لا زالت تحجم عن تزويد أوكرانيا بالدبابات والأسلحة الهجومية، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن بالحرف الواحد، رداً على سؤال بشأن رفض الولايات المتحدة تزويد أوكرانيا بالأسلحة الهجومية، إن ذلك يعني “الحرب العالمية الثالثة”. الآن الولايات المتحدة الأمريكية والحلفاء يزودون أوكرانيا بالدبابات، وستأتي طائرات “إف-16” في المستقبل، وفقاً لما أعلنه بايدن في هيروشيما خلال قمة مجموعة الدول الصناعية السبع.

    يدفع الأمر نحو تساؤل عن سبب العداء الذي يبديه الغرب والولايات المتحدة الأمريكية ضد روسيا، عسكرياً واقتصادياً وإعلامياً.

    الإجابة نجدها في التاريخ، وليس بالضرورة التاريخ البعيد، حيث لم تكن أوكرانيا قد ظهرت بعد على خريطة الدول، وإنما حتى في فترة سنوات الحرب العالمية الثانية، حينما كانت بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وتابعوهم من الحلفاء يتمتعون بعلاقات تعاون واسعة مع ألمانيا الفاشية قبل نشوب الحرب العالمية الثانية، في العام 1935، حيث ساهم هؤلاء بشكل فعال وواسع النطاق في بناء القاعدة الصناعية الضخمة لألمانيا الفاشية، ومولوها حتى تمكنت ألمانيا من بناء حوالي 300 مصنع عسكري، ساهم الغرب بشكل مباشر وفعال جداً في بنائها، ودعم وترسيخ برنامج الفاشيين.

    وحينما أحس الحلفاء برغبة ألمانيا في التمدد إلى أوروبا والهيمنة عليها، اضطروا للانقلاب ضدها، وبعد هزيمة ألمانيا الفاشية قامت الولايات المتحدة الأمريكية باحتلال جزء من ألمانيا واليابان، ولم يكن هذا من قبيل العفوية أو الصدفة، وإنما لأن دعم ألمانيا في البداية كان مصمماً للقضاء على الشيوعية، من خلال إضعاف الاتحاد السوفيتي، وتقسيمه إلى عدة مناطق تتحكم فيها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا.

    فشل المخطط، وبقيت هيمنة الولايات المتحدة على ألمانيا من خلال القواعد العسكرية الضخمة التي لا زالت قائمة حتى يومنا هذا. لم يتخل الأمريكيون عن مخططهم، وهدفهم في الهيمنة على روسيا، لا سيما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، فوضعوا مخططهم الواضح والصريح بتفكيك روسيا، وشرعوا في ذلك من خلال تمدد “الناتو” شرقاً، ومن خلال الحرب الهجينة المستمرة ضد روسيا، وخطط استنزاف البلاد، والتصرف بمواردها وخيراتها، من خلال الثورات الملونة في الدول الصغيرة حول روسيا، وحتى من خلال تمويل شخصيات ومؤسسات عميلة داخل روسيا.

    لهذا تم اختيار أوكرانيا لتكون البطل الرئيسي في هذه الحرب، ولكي تكون رأس الحربة التي ستطعن روسيا في المواجهة، وتلك هي جذور الأزمة الراهنة. إلا أن ما لا يدركه الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، هو أن روسيا اليوم ليست روسيا التسعينيات عقب تفكك الاتحاد السوفيتي وقبله منظومة الدول الاشتراكية واتخاذ قرار إلغاء حلف وارسو العسكري، ويكفي اليوم أن نتابع تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف حتى يتضح لنا أن روسيا بقيادتها وأجهزتها وشعبها تستوعب حجم وأبعاد المخططات الغربية الأمريكية العدائية لإضعافها وتفتيتها، في الوقت الذي تمكنت فيه روسيا من إفشال كل تلك المخططات، بسبب ما يتمتع به اقتصادها الآن بمرونة مبهرة مكنته من الانتقال من التبعية للأسواق الغربية فوراً إلى الاعتماد على أسواق أخرى في الشرق وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، وما تتمتع به قواتها المسلحة من قدرات وإمكانيات هائلة لم تكن متوفرة من قبل، ناهيك عن أن روسيا هي “الـ “قوة “الـ ” نووية الرائدة على هذا الكوكب، وهو ما يحتم الحديث معها بندية واحترام متبادلين.

    لقد آن الأوان للغرب أن يفيق من غفلته، وأن يخرج من عقلية “الحرب الباردة”، و”الهيمنة الغربية” و”الاستثنائية”، وآن الأوان للاعتراف بفشل جميع المخططات الغربية حول العالم والتي تجسدت في السياسات الاستعمارية الأمريكية والفرنسية والبريطانية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط بأشكالها القديمة والجديدة على حد سواء.

    لقد زرعوا أوكرانيا في أوروبا لتكون قاعدة أساسية للولايات المتحدة الأمريكية في المواجهة ضد روسيا، كما زرعوا إسرائيل لتكون قاعدة أساسية للولايات المتحدة للهيمنة والسيطرة على الشرق الأوسط، وذلك هو السبب في معاناة الشعب الأوكراني، وهو السبب في معاناة الشعب الفلسطيني. ورفض الولايات المتحدة الأمريكية والغرب للحلول العادلة في الأزمتين، بسبب أن تسوية تلك الأزمات تعني ببساطة نهاية الهيمنة الأمريكية على أوروبا، وعلى الشرق الأوسط، وهو ما لا تريده الولايات المتحدة الأمريكية وترفضه بكل ما تملك من قوة وجبروت.

    أؤكد أن القيادة الروسية وأروقة صنع القرار والأجهزة المعنية في روسيا يتابعون باهتمام شديد كل ما يحاك من مخططات ضد روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، وقد بذلت القيادة الروسية بالفعل كل بوسعها من جهود لتفادي وصول الأوضاع إلى ما وصلت إليه، ولم يتم اتخاذ قرار البدء بالعملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، إلا بعد أن استنفدت جميع الوسائل الدبلوماسية والسياسية بالكامل، ولم يبق سوى مواجهة القوة بالقوة، والعنف بالعنف.

    وحتى اليوم، فإن روسيا لا زالت تتمتع برباطة الجأش وضبط النفس أمام كل استفزازات الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، ولا يعود سبب إطالة الأزمة، وعدم إقدام روسيا على إجراءات جذرية واسعة النطاق، إلا للتعليمات الصارمة للعسكريين الروس تفادي وقوع ضحايا مدنيين من الشعب الأوكراني قدر المستطاع، وإعطاء مزيد من الوقت والفرص والمساحات للزعماء الغربيين للتراجع، واستيعاب أن روسيا لا ولن تهزم مهما طال أمد العمليات العسكرية، وإدراكهم أنه لا خيار أمامهم غير القبول بالواقع الجديد، والبدء في التفاوض مع روسيا للتوصل إلى صيغة مناسبة للضمانات الأمنية بين روسيا و”الناتو”، ولتكن أوكرانيا ضمن هذا الاتفاق من خلال ضمان حيادها، وخروجها من مسرح العمليات العسكرية.

    أما الاعتماد على أوكرانيا الضحية التي يستنفدون شعبها واقتصادها ووجودها بالكامل من أجل مصالح الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، فلن يؤدي ذلك سوى إلى مزيد من الضحايا، ومزيد من المعاناة، ومزيد من الدمار واختفاء الدولة الأوكرانية تماماً، وهو ما حذر ولا زال يحذر منه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

    إن ما يحدث على حدود وبالقرب من وداخل روسيا غير مقبول، ولن تسمح روسيا بالعبث بأمنها القومي، وتسليح البلدان المجاورة لها بهدف القيام بعمليات عدائية ضدها. فأرض روسيا وشعبها خطوط حمراء، لن تدفع أوكرانيا وحدها ثمن تخطيها، وإنما أوروبا الغربية بأسرها، وذلك ليس تهديداً بقدر ما هو دعوة لقراءة متأنية وواعية ورشيدة للتاريخ والجغرافيا والواقع الراهن.

    وقد أعذر من أنذر..

    شاركـنـا !
    
    التعليقات مغلقة.
    أخبار الساعة