وما ذكرته المتسولة العراقية هو حقيقة لا يمكن نكرانها ،إذ أن الأمكنة أصبحت ملكا لهذه المجموعة من المتسولين أو تلك،وهناك مافيات موجودة في أحد فنادق البتاوين تدير عملية توزيع المتسولين في بغداد، حاولنا الوصول إلى الفندق لكن جوبهنا بتعتيم حتى من مفارز الشرطة المتواجدة هناك!
استسهال المهنة
الظواهر السلبية أصبحت تتسيد المشهد في الشارع العراقي في ظل التدهور الأمني الحاصل في البلاد وانشغال الحكومة في حفظ الأمن أو في المناكفات السياسية التي لم تهدأ أو تسكن يوما منذ عملية التغيير إلى يومنا هذا ،فأينما تلتفت اليوم تجد صورا غير مألوفة على مجتمعنا وحالات تحيلك إلى اليأس والإحباط مما يحصل في البلد ،فمع ارتفاع أرقام موازنات الدولة نلاحظ ان هناك ارتفاعا غير مسبوق بأعداد المتسولين في جميع مناطق بغداد ولم يعد الأمر محصورا على المناطق المزدحمة،وهذا مؤشر خطير على تفاقم الظاهرة ويؤكد بما لا يقبل الشك أن للبطالة والعوز دورا كبيرا في تفشيها ،ويطرح الكثير من التساؤلات ، أولها أين تذهب تلك الموازنات ؟،واذا كان اغلبها يذهب للمواطنين هل سنشاهد هذا العدد الكبير من هؤلاء المغلوبين على أمرهم وغير المغلوبين لكون العديد منهم أدمن التسول لسهولته ولكونه يدر مبالغ مادية كبيرة من غير جهد أو رأس للمال لأن راس مهنة التسول هو إثارة عواطف الناس واللعب على مشاعرهم.
فندق لعوائل الظاهرة
سائق سيارة الأجرة محمد نوري يقول ،إن العديد من المتسولين والمتسولات ينتمون إلى مجاميع ولكل مجموعة قائد يشرف على المجموعة يقوم بجمع المال بعد نهاية يوم عملهم بالتسول ويقوم بتوزيع الوراد عليهم، نوري أكد للمدى أنهم يقومون بتأجير بعض الأطفال المعوقين أو المشوهين من بعض العوائل مقابل (15)ديناراً لكل طفل ،وما يدفع تلك العوائل المحترمة هو العوز المادي وأحيانا الطمع بحسب قول نوري الذي بيّن أن أغلب المتسولات اللواتي نراهنّ في الشارع هن من الغجر الذين كانوا يسكنون مناطق الكمالية ،لكن بعد التهجير الجماعي لهم الذي حصل بعد التغيير عام 2003 دفع تلك العوائل إلى ممارسة مهنة التسول بإشراف أولياء أمور تلك العوائل الذين يقومون بتوزيعهن على الساحات والتقاطعات صباحا ثم يصطحبونهن عند المساء إلى الفندق الذي يقيمون فيه بعد ان يقوموا بتسوق طعام العشاء والفطور من احد محال الأغذية الموجودة في البتاوين،نوري الذي رافقهن في رحلة العودة إلى الفندق أوضح بأنهن نزلن من العجلة في شارع السعدون ورفضن أن أوصلهن إلى الفندق خشية أن أعرف مكانه لكونه والكلام للسائق يضم العديد من العوائل المتسولة .
حكاية متسوّلة سوريّة
جميع المتسولين الذين حاولنا التحدث معهم رفضوا الحديث باستثناء لاجئة سورية قالت إن اسمها أم فائز وهي مقيمة في احد الفنادق مع عائلتها التي نزلت معها بأفرادها الأربعة: صبي وثلاث بنات ،مؤكدة أنها جاءت إلى بغداد عن طريق كردستان هاربة من الشتاء القارس الذي عاشه مخيم دوميز في دهوك ،وعن دور زوجها وعمله قالت إنها أرملة وزوجها قتل أثناء الحرب الحاصلة الآن في سوريا ،و كان يعمل تدريسياً ،أما هي فكانت تعمل معينة في إحدى دوائر التربية،وعن واردها اليومي وتعامل العراقيين معها أكدت أن الجميع يتعاطف معنا لكن نتعرض للاضطهاد من قبل المتسولين العراقيين ،وأحيانا يقومون بضربنا وتهديدنا لكنها أثنت على دوريات الشرطة التي تقوم بحمايتهم من بطش المتسولات والمتسولين العراقيين،الذين قاموا بضرب ولدها فائز مما أدى إلى جرحه في الوجه ونادت عليه لتريني مكان الجرح بالفعل،أم فائز تمنت أن تستقر الأوضاع في بلدها حتى تعود هي وعائلتها إلى سوريا ،لأن الغربة لا تحتمل في ظل هكذا حياة بحسب قولها.
الداخلية تقوم بالمراقبة
لا يمكنك إلا أن تتعاطف مع هؤلاء الناس مهما كانت أصولهم وطرق تسولهم ،لكن في نفس الوقت يجب ان تكون هناك عيون لمراقبتهم خاصة وأن العديد من حالات خطف الأطفال من المناطق السكنية كانت بإمضاء بعض المتسولات المنتميات لبعض العصابات،والعمل الإرهابي الذي حدث مؤخرا في شارع على مركز التطوع كان بواسطة احد الباعة المتجولين الذي كان يحمل ترمسا لبيع الشاي ،إذ قام بتفجيره وسط المتطوعين،لذا يجب متابعة ومراقبة هؤلاء من قبل الجهات الأمنية المعنية.
المتحدث الرسمي لوزارة الداخلية العميد سعد معن أكد لـ ( المدى ) في اتصال هاتفي أن ظاهرة التسول مشخصة من قبل أجهزة الوزارة وهي أساسا ظاهرة غير حضارية ،وقد قامت الوزارة بالعديد من الحملات للحد من هذه الظاهرة بالتنسيق مع الأجهزة والدوريات المكلفة لهذا الغرض التي تقوم بدورها بتسليمهم إلى وزارة العمل ، معن بيّن وجود بعض الجنسيات العربية التي تقوم بالتسول عند إشارات المرور أو في الأماكن المزدحمة ،فهناك تنسيق أيضاً مع دائرة الإقامة التي منحت المقيمين شهرا لتصحيح وضعهم القانوني ،وقد تم تمديده إلى فترة أخرى لهم . معن أوضح ان الأجهزة الأمنية تشخص وترصد جميع الحالات المشبوهة سواء في تجمعاتهم أو في الشوارع العامة ،أما عن وجود متسولين في أماكن محددة بالقرب من الدوائر الرسمية فإن القطاعات التابعة للوزارة تأخذ بدورها الإجراءات الكفيلة للحفاظ على الأمن والحد من هذه الظاهرة .
تعاقب الحروب والحصار
أم احمد من سكنة حي تونس في بغداد تشير
لـ( المدى ) أنها استغربت من حالة تتكرر كل يوم في أوقات متعددة ،وهي قيام شابات سوريات بنتهى الجمال وبمختلف الأعمار بطرق باب البيت للبحث عن مساعدة مالية في حين ان منظرهن لا يوحي للناظر أنهن بحاجة للمال أو العوز لأنهن بكامل الأناقة ،وهذا مقلق جداً لنا لاسيما ان العديد من العوائل تتجه إلى أعمالهم منذ الصباح ويبقى في البيت الأبناء من الطلبة ،وعليه نطالب الأجهزة المتخصصة بمتابعة هذه الحالة خصوصاً في المناطق المعروفة فى بغداد .
الباحث في الشؤون الاجتماعية حيدر العيساوي أكد للمدى ” لا ننكر أن ظاهرة التسول في المجتمع العراقي لم تكن بالشيء الجديد برغم أن البلد يملك ثاني أكبر مخزون نفطي في العالم , ولكن تعاقب الحروب على هذا البلد المنكوب مرورا بالحصار ،وأخيرا الاحتلال الأمريكي الذي زاد من حجم تلك الظاهرة في المجتمع العراقي فأصبحت منتشرة بشكل تجمعات لهم مسؤول يقوم بالتحكم بمجموعة من المتسولين البنات والأولاد من مختلف الأعمار ويقوم بعد ذلك بإعطاء توجيهات معينة، وفي نهاية اليوم يجمع محصول عملية التسول ويعطيهم الأجر اليومي، ولقد استفحلت ظاهرة التسول بشكل خطير داخل المجتمع العراقي بسبب الفقر، والبؤس، والبطالة، والانحراف،والجهل، والطلاق، والمشاكل العائلية بحسب قول العيساوي.
مافيات لاستغلال الأطفال
ويحذر اختصاصيون وباحثون اجتماعيون من تنامي ظاهرة التسول التي يرون أنها نتاج الأزمات والحروب التي مر بها المجتمع في العقود الماضية، التي ذهب ضحيتها كثير من معيلي العائلات ، فضلا عما خلفه العنف من آثار سلبية أجبرت كثيرين على التسول ، للبحث عن لقمة عيش عجزت الحكومة عن تقديم المساعدة لهم للحصول عليها . وتقول السيدة سناء حامد التي تعمل في احدى منظمات المجتمع المدني غير الحكومية : أصبح عدد الأطفال المتسولين في الشوارع لافتا للنظر ولا يمكن تجاهله بأي حال من الأحوال. وأضافت “إنهم يتحدثون مثل البالغين، وفي بعض الأحيان، عندما يصل الطفل إلى مرحلة من الجوع لا يجد ما يسد رمقه سيضطر إلى السرقة .محذرة من وجود “مافيات” تقوم باستغلال الأطفال في التسوّل وتوزيع المخدرات والاستغلال الجسدي والجنسي.