د. أروى محمد الشاعر
يا أرض غزة الجريحة، تنزفين الألم والحنين، في عالم نسي كيف يكون إنسانًا، تغافل عن آلام الطفولة، وعجز عن حماية البراءة، أطفال غزة قصصهم ترسم صورة قاتمة لطفولة سُرقت في وضح النهار. يتحول اللعب والضحك إلى صرخات ودموع، ويصبح الحلم بالأمان مجرد خيال بعيد المنال. هم صغار في السن، لكنهم كبار في معاناة الحياة، يتحملون ما لا يطاق، ويكافحون في صمت.
يحملون على عاتقهم عبء الحياة، يصبحون الأم والأب لإخوتهم، يكافحون لإيجاد لقمة العيش وسط الدمار. كل صباح يستيقظون على ذكريات أليمة، وكل ليلة ينامون على أمل غدٍ أفضل لا يأتي.
محمد، بطل قصتنا، يعكس مأساة لا تعد ولا تحصى من الاف الأرواح البريئة المسلوبة الأحلام. فقدان الأهل يترك جرحًا عميقًا لا يندمل، يتحول معه الأطفال إلى أيتام يبحثون عن الأمان في خيام تفتقد لأدنى مقومات الحياة.
تبدأ قصة محمد اليازجي الطفل الغزي البالغ من العمر فقط ثلاثة عشر عامًا (١٣ عاماً) كرمز للصمود في وجه الأقدار القاسية. تنطوي هذه القصة على فصول من الحزن العميق والشجاعة الفطرية، وتمتزج فيها عذوبة الطفولة بمرارة الواقع. حيث خلف القصف الوحشي العشوائي الصهيوني مخترقاً كل حواجز الإنسانية والرحمة جروحًا لا تندمل في قلب الطفولة. في تلك الليلة القاسية، حينما كان القدر يكتب سطوره الأليمة، يفجع محمد واخوته الصغار بفقدان أمهم، تاركة خلفها وسط زخات الدمار والنار ثمانية أطفال أيتام.
أطفال كانوا يحلمون كغيرهم من الأطفال بحياة مليئة باللعب والفرح، وجدوا نفسهم فجأة في مواجهة حقيقة مؤلمة: فقدان الأم وغياب مصير أب معلق بين أسئلة بلا إجابات.
في قلب هذا العنف الغاشم، يجد محمد نفسه مع إخوته الصغار ( ميار ، تولين، سوار، ورد، فاطمة، ميس، وإخوانه: يوسف وزاهر ) أمام واقع مؤلم جديد في خيمة بسيطة باتت مسكنناً أُقيمت على أنقاض الحلم والأمان بعد أن فقدوا منزلهم، والتي تفتقر لأبسط مقومات الحياة، أصبحت تلك الخيمة عالمهم الصغير الذي يحتضن أحلامهم المحطمة وآمالهم المعلقة. يجلس فيها محمد يحيطه سبعة من إخوته، أصغرهم طفلة في شهرها السادس، تنظر إلى العالم بعيونٍ تجهل ما يدور حولها. محمد أكبر إخوته في هذه اللحظات القاسية يتحول من طفل ما زال يحتاج للرعاية إلى مربي وحامي وأب وأم لإخوته، يحمل على كتفيه عبئاً لا ينبغي لطفل في سنه أن يتحمله، لكنه يفعلها بشجاعة تفوق سنوات عمره.
كل صباح، يستيقظ محمد مبكراً على وقع الحنين إلى حضن أمه وفي عينيه بقايا حلم وهي توقظه بحنان ، وصوت أبيه الغائب، يحمل على كتفيه مسؤولية إعالة إخوته. يتنقل بين الخيام وركام كان يضج يوماً بالحياة والضحكات، بقلب يفيض بالمحبة وروح لم تفقد براءتها رغم قسوة الظروف، يحمل السطل متجولًا بحثًا عن الماء، ليعود به إلى إخوته الذين ينتظرونه بعيون تملؤها الأسئلة. يعد الحليب لأخته الرضيعة، متعلمًا كيف يرعاها ويسقيها، وكأنه يحاول تعويض غياب الأم التي كانت تقوم بهذه المهام بحب وحنان. يتحول الطهي وإعداد الحليب لأخته الرضيعة إلى روتين يومي يؤديه بحنان ومسؤولية. يحكي محمد لأخوته الصغار قصصًا في محاولة لإبعادهم عن قسوة الواقع، يلهو معهم، يضحكهم، وفي أعماقه، يخفي ألم فقدان الأم والقلق على مصير الأب.
عندما يحصل محمد على بعض المال من التبرعات، يحاول أن يملأ الفراغ الذي خلفه غياب الأم والأب. يدخر جزءًا يسيرًا ليشتري به ألعابًا بسيطة لإخوته. يرى في عيونهم بريق فرح وضحكات تبدد ظلال الحزن ، وهم ينسون للحظات مأساة فقدان أمهم وغموض مصير والدهم. تلك الألعاب، رغم بساطتها، تعيد الهم جزءاً من طفولتهم المسلوبة وجسرًا يعبرون به إلى عالم يخلو من الألم، يلعب محمد مع إخوته، يضحك، يحاول أن ينسى الواقع المرير. لكن عينيه، المحملتين بأحزان عميقة، تخفيان دمعة لا يراها أحد.
مع حلول الليل، يفترش محمد وإخوته الأرض في خيمتهم، محاولين البحث عن الدفء والأمان وسط البرد والخوف. يغطيهم بما تيسر من الأغطية. ينظر إليهم بعينين تفيضان بالحنان، وقلبه يحترق شوقًا للأمان الذي فقدوه. وحين يعلو صوت القنابل، تبدأ دموع الأطفال بالانهمار، فيحتضنهم محمد، الحامي المواسي الوحيد لإخوته، محاولًا تهدئتهم وطمأنتهم، بكلمات تحمل حنان الأم وشجاعة الأب. يروي لهم حكايات الأبطال والفرسان، يعدهم بأيام أفضل، وفي عينيه تلمع دمعة تحكي قصة الفقد والشجاعة. يحاول أن يزرع فيهم الأمل والشجاعة. يتسلل النوم إلى أعينهم وهم يستمعون لصوته الهادئ، محاولين الهروب من واقعهم القاسي إلى عالم الأحلام.
بعد أن يطمئن أحمد بأن إخوته قد غرقوا في نوم عميق، يتسلل اليه خيال مؤلم: يتخيل أمه تعود إليهم، تحمل في يديها الطعام والحب، تضحك وتلعب معهم كما كانت تفعل. يراها تجلس بجانب الخيمة، تروي لهم قصصًا قبل النوم، تمسح على رؤوسهم بحنان. لكن هذا الخيال يتبدد سريعًا، تاركًا خلفه ألمًا لا يوصف.
يحلم محمد أيضًا بأبيه، يتخيله يعود من بعيد، يمشي نحو الخيمة بابتسامته الدافئة، يحمله على كتفيه كما كان يفعل دائمًا. يتخيل أن أباه يخبرهم أن الحرب انتهت، أنهم سيعودون إلى منزلهم مرة أخرى. لكن مع كل صباح، يستيقظ محمد على الواقع القاسي، حيث لا توجد أم تحتضنهم ولا أب يحميهم، ينظر إلى إخوته، يرى في عيونهم البريئة انعكاسًا لأحلامه المفقودة، يشعر بالعجز وهو يحاول تقديم العزاء لهم ، يحكي قصصًا من خياله، حيث العالم مكان جميل بلا حروب ولا دموع. يحاول أن يقنعهم ونفسه بذلك، لكن قلبه يعلم أن الواقع أقسى.
تتواصل رحلة محمد، ما بين البحث عن الماء والطعام، والعناية بإخوته الصغر وأخته الرضيعة، يحمل معه ذكريات أمه التي كانت تنير حياتهم، وصورة أبيه الذي تلاشى في غموض الحرب. من قصته، تتجسد معاناة طفل أجبرته الظروف على أن يكبر قبل أوانه، طفل يحمل على كتفيه عبء العالم، وفي قلبه حلم أن يعود يوماً يلعب ويضحك بلا هموم. تستمر قصته بكلمات تنبض بالألم وتسيل كالدموع على وجه الإنسانية.
يكافح محمد للحفاظ على شعلة أمل متقدة في قلبه، متمسكًا بإيمان راسخ بأن الغد سيكون أفضل، ومع كل ليلة تمر، يزداد الألم والإحساس بالظلم. يتساءل محمد في صمت: لماذا تُترك غزة لتواجه مصيرها وحدها؟ أين هم قادة العالم الذين يتشدقون بمبادئ بالعدالة والإنسانية وأعينهم التي تغض النظر عن هذه المجازر؟ أين ذهبت هذه المبادئ التي يتغنون بها؟ كيف ينامون وأطفال غزة يقتلون ويبكون؟ وكيف يُسمح للبراءة أن تُسلب وسط ظلم دامس؟ أين الرحمة في ظل هذا الصمت الدولي المريب، والدعم الغير مسبوق للاحتلال الغاشم?, يبرز السؤال الأكبر: كيف يُسمح بأن تتحول أحلام الأطفال إلى كوابيس ومجازر في غفلة من الزمن؟، تغمره الحيرة وهو يشاهد عيون إخوته الصغار تتساءل ببراءة عن سبب ما يحدث، وصوته ينادي في صحراء الطغيان والامبالاة الإنسانية.
تتواصل أيام محمد في غزة، محملة بالأحزان والأماني المكسورة، إنها قصة ليست سوى واحدة من الآلاف من القصص المشابهة التي تعكس معاناة أطفال غزة الذين اُجبروا على مواجهة الواقع المؤلم بمفردهم. يعيش هؤلاء الأطفال في ظل القصف والحصار، فقدوا ذويهم وأحلامهم وطفولتهم، وأصبحوا يتيمين مشردين يحملون على كتفيهم عبء الحياة والنجاة في ظروف لا يمكن تصورها، محملة بأوجاع لا تعرف الانتهاء، وصرخات تضيع في زحمة الأحداث العالمية.
تبقى حكاية محمد شاهدة على مأساة واقع مؤلم وزمن تخلى فيه العالم عن غزة وأطفالها، وقت تحولت فيه السياسة إلى لعبة تتجاهل معاناة الأبرياء. إنها وصمة عار على جبين الإنسانية، تذكيرًا مؤلماً بأن العدالة والرحمة لا تزالان بعيدتين عن الواقع في أروقة السياسة الدولية،إنها معاناة وجريمة مجزرة لا تنسى ولا تغتفر، وصفحة في كتب التاريخ لا تُطوى، إنها رسالة إلى الأجيال القادمة عن معنى التحدي والصمود في وجه الظلم والنسيان.